شعار قسم مدونات

هل يعود تيار المستقبل إلى "بيروتيته"؟!

BLOGS سعد الحريري

هُناك مفهومٌ مستخدم في العلاقات الدولية يُسمى "التوسعُ المُفرِط" imperial over stretch يُطلق على الكيانات السياسية (دُوَل، امبراطوريات، ممالك…) حينما تتوسع بسُرعة وتُسيطر على مناطق جديدة دون أن يكون لتلك الكيانات القُدرة على تلبية حاجات هذه المناطق الجديدة أو القدرة للتحكم بها بشكل كامل. يتطابق هذا المفهوم إلى حدٍ بعيد مع وضع الأحزاب السياسية اللبنانية التي مهما بلغت قُوتها لا تستطيع أن تتجاوز أمرين أساسيين هما "المناطقيّة" و"الطائفية"، ففي تاريخ لبنان الحديث لم يُوجد حزب سياسي استطاع أن يتجاوز "طائفيته" إلى طوائف أخرى إلّا شكليّاً، ولم يستطع أي حزب أن يتجاوز مناطقيته إلا مرحليّاً، فالكتائب يتركز نشاطها في جبل لبنان، والقوات اللبنانية في بشري وبعض مناطق الجبل والتيار العوني يضع ثقله السياسي في الجبل، والمردة لم تخرج فعليا من معقلها في زغرتا، والثنائي الشيعي يتموضع بين بعلبك والجنوب ولكل منه (أي حزب الله وأمل) مناطقه التي ينشط بها…

ولم يشهد الماضي القريب أي تمدد لحزب في أكثر من منطقة لبنانية سوى الحالة التي شكلها تيار المستقبل بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٩ والتي كانت وليدة ردة فعل لدى الطائفة السنية على اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، وما أعقب ذلك من أحداث متسارعة أدت في نتيجتها إلى خروج الجيش السوري من لبنان. تمدد المستقبل رُغماً عنه، لم يكن قبل ذلك يملك الهيكلية الخاصة به والتي ينطلق منها لزيادة عدد منتسبيه، ما حصل هو العكس تماماً، فلقد تمّ إنشاء مجالس محلية لتنسيق الاحتجاجات والمظاهرات والنشاطات بعد اغتيال الحريري، وتم فيما بعد إلحاق هذه المنسقيات بقيادة التيار بعد الزيارات التي قام بها أشخاص من آل الحريري لعدة مناطق في الشمال والبقاع، ومن بين هؤلاء الأشخاص شفيق الحريري شقيق الرئيس رفيق الحريري الذي تعرف على فاعليات الشمال عبر أحد الأشخاص الذي كانت تربطه به صداقة من قبل.

واستطاع التيار أن يستثمر مظلوميته سياسياً، فحاز على كتلة نيابية تعادل ثلث البرلمان اللبناني تقريباً، لكنه لم يستطع أن يُترجم تلك الفرصة التاريخية ويكسر قاعدة "المناطقية" التي تحدثنا عنها آنفاً، فعمل تيار المستقبل لم يتجاوز "بيروتيته" -وربما فشل في هذه أيضاً- والقاعدة الشعبية الواسعة له في الشمال والبقاع ترهلت بفعل غياب الخدمات والتقديمات، والمشاريع الموعودة التي بقيت حبيسة الأوراق التي كان يتلوها سعد الحريري بعد كل جولة انتخابية في عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٩. يتندر المواطنون في الشمال على مصانع العصير والألبان التي وعد بها سعد الحريري، فيقول أحدهم "الأرض يلي عند المعمل زرعوها السنة فجل وملفوف"، والمستوصفات التي كانت تخدم جزءاً من الطبقة الفقيرة أقفلت أبوابها، ليقول موظفوها كلما سمعوا الـ ٢٥١ مشروعاً الذين وعد بهم الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، "يلي ما بيقدر يستمر بمستوصف بسيط، ما بيقدر يفتح مشروع"!

ليست نكبةً للمستقبل أن يعود إلى بيروت، بل هي الواقعية السياسية التي انتهجها التيار خلال الأعوام الأخيرة بملفات عدة، إقليمية، ومحلية
ليست نكبةً للمستقبل أن يعود إلى بيروت، بل هي الواقعية السياسية التي انتهجها التيار خلال الأعوام الأخيرة بملفات عدة، إقليمية، ومحلية
 

تكثر التحليلات حول الوضع الانتخابي لتيار المستقبل في الشمال، يتحدث بعضهم عن استمرارية قوة هذا التيار أمام التيارات المنافسة الاخرى، لكن أحدهم يهمس سراً -وهو أحد كوادر تيار المستقبل- وضعنا ليس على ما يرام، ونتائج الانتخابات ستكون صادمة. يبدو هذا التحليل الأقرب إلى الواقع، ففضلاً عن الشرائح الاجتماعية الشمالية التي لم تستفد من خدمات المستقبل، وتلك الشرائح التي تضررت نتيجة "ارتجالية المواقف" لدى التيار، والتي كان نتيجتها صرف الاف من موظفي شركات الأمن بعد اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨، والموظفون المصروفون من المؤسسات التي أُغلقت… فضلاً عن ذلك هناك نقطتين مهمتين قد تشكلان نقطتي ضعف لتيار المستقبل.

الأولى.. هي اعتراض شخصيات أساسية في التيار على التسميات شمالاً لأكثر من سبب، واستبعاد شخصيات مهمة قدمت للتيار الكثير وحاربت لأجله، وفي ذلك يقول أحد الصقور في تيار المستقبل لأحد أصدقائه المقربين "ريتا تنكسر ايدي إذا بنزل لهيداك المرشح".

الثانية.. هي واقعية التيارات المنافسة والتي استمرت بتقديم خدماتها في نطاقها الجغرافي الضيق وهذا ما خلق كتلة انتخابية ستُترجم بطبيعة الحال إلى نواب بعد فرز الصناديق في السادس من أيار المقبل.

بنتيجة كل ذلك، فإنه من المنطقي أن ينخفض حجم كتلة المستقبل في الشمال من ١٦ نائب حالياً، إلى ٧ نواب كحد أقصى و٥ نواب كحد أدنى مما يعني بالمقابل تضخم حجم منافسي المستقبل في الشمال من نائبين فقط إلى ١٠ نواب، وهذا ما سيخلق معادلةً جديدة في المجلس النيابي وينهي على الأقل احتكار المستقبل لقرار الطائفة السنية في لبنان، ليصبح بعدها شريكاً أساسياً ورئيسيّاً في هذا القرار!

لكن الأهم من هذا كله هو العودة إلى ما بدأنا به بداية كلامنا، وهو العودة إلى "المناطقية" أي تركز المستقبل في بيروت فقط (وهو الأهم بالنسبة لأن بيروت هي عاصمة القرار)، وبروز زعامات سُنية في عدد من المناطق!! ليست نكبةً للمستقبل أن يعود إلى بيروت، بل هي الواقعية السياسية التي انتهجها التيار خلال الأعوام الأخيرة بملفات عدة، إقليمية، ومحلية، إنها عودة للتركيبة اللبنانية التي لا يستطيع طرفٌ بها مهما كانت قوته أن يلغي طرفاً آخر أو يغلق بيوت سياسية، أو يتمدد لأكثر مما يسمح له حجمه وقدراته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.