شعار قسم مدونات

الروتين الجميل

مدونات - راديو قديم روتين
دومًا ما يُشار لكلمة "روتين" على أنها شيء ثقيل على النفس، ومضني للروح؛ ربما كان هذا المعنى واردًا في بعض الحالات، لكن في الغالب-ومن وجهة نظري-الروتين شيء في غاية الجمال، وبغيره لا تستقيم الحياة. ربما علينا أن نتأمل الروتين بشكل مُختلف بدءًا من اليوم.
   

في الروتين استقرار وراحة ليس على المستوى النفسي فقط؛ بل أيضًا على المستوى الجسدي؛ فأجسامنا بحاجة لخطة نوم واستيقاظ ثابتة، وإذا ما حدث وتغيرت هذه الخطة؛ يبدأ الجسم في التشتت والتذبذب، وتضطرب هرموناته والتي تؤثر بدورها على جميع وظائف الجسم، وتبعًا لذلك تتأثر الصحة النفسية، والعقلية للفرد. الأمهات هن أكثر من يدرك أهمية الروتين اليومي للنوم؛ فمع قدوم مولود جديد لم تنتظم ساعته البيولوجية بعد تبدأ مواعيد نوم الأم تضطرب وهذا بدروه يؤثر على تركيزها وعلى صحتها العامة. جسدك ليس ملولًا مثلك، ولا يحب التغيير بالمرة فيما يتعلق بمواعيد الاستيقاظ والنوم، كذلك لا يحب التغير في مواعيد تناول الوجبات الرئيسية؛ حتى لا يختل معدل الأيض عندك. خبراء التغذية دومًا يؤكدون على ضرورة تناول الوجبات الرئيسية في أوقات ثابتة كل يوم.. إلى هذا الحد جسدك يعشق الروتين!

  

أما بالنسبة للجانب المتعلق بالمشاعر والذكريات؛ فلا شيء أرسخ من الروتين في الذاكرة، إذا ما أردت أن تصنع ذكرى في ذهن أحدهم؛ فأجعله يداوم على شيء ما، أو عوده على شيء ما. شعور الفقد ينتج في الغالب عن كوننا اعتدنا على شيء ما؛ وحينما نصحو ذات يوم ولا نجده نشعر بهذا الفراغ وهذا الألم، هذان الشعوران لم ينتجا تبعًا لقيمة هذا الشيء بقدر ما هي العادة والألفة التي غُرست في النفس. حالة "النوستالجيا" التي تعصف بنا بين الحين والآخر ما هي إلا رواسب مما علق في الذاكرة، بالتأكيد التطور شيء جميل؛ لكن بلا وعي منا نحن لركوب الدراجات، ولكتابة الخطابات، وللهاتف ذو القرص الدوار، ولألعاب الطفولة. هذه الأشياء رسخت في أذهاننا لأن ذاكرتنا كانت ما تزال غضة، وتفتحت أعيننا على زمن معين بمفرداته، ومع تكرار هذه المفردات صارت جزءًا من وجداننا، وصرنا نحن إليها بين الحين والآخر.

 

هناك آلاف الغرقى ممن يبحثون عن قشة يتعلقون بها لبر الحياة؛ هذه القشة لن تكون سوى روتين يتمثل في أي شيء كان: دراسة، عمل، أسرة.. ليس علينا أن نمل حيواتنا بعد اليوم مهما بدت لنا روتينية

طبق الفول على مائدة الإفطار ونحن صغار لا يُنسى ويظل له شوق خاص، وصوت الراديو الذي يصدح بلحن "يا صباح الخير يا اللي معانا"، وموسيقى برنامج "همسة عتاب"، وصوت فؤاد المهندس الآتي من بعيد ليقول لنا "كلمتين وبس"، وغيرها من البرامج الإذاعية التي كنا نسمعها بشكل روتيني في الإذاعة والتليفزيون، في مواعيد يومية ثابتة متكررة.

 

أيام الجامعة بثقلها، وشهور العمل برتابتها، ومسؤوليات الأولاد المُجهدة ما هي إلا روتين يأخذ دوره في حياتنا وينقضي، وبعدما ينقضي نشعر بفراغ وحزن شديد لأن جزء من عمرنا رحل؛ أنا حينما كنت أصحو باكرًا إلى جامعتي متأففة لم أكن أدرك أن في سعيّ هذا سعيٌ للحياة، العامل الذي يجد عمله ملولًا ويجد مهامه متكررة؛ لا يدرك أن هذا العمل برتابته هو ما يمنح للأيام قيمة، والأم التي ملت أعباء أسرتها التي لا تنتهي؛ لا تدري أن هذه الأعباء هي التي تجعل الوقت ذا جدوى؛ ونتبين بعد حين، وبعد كل هذا المسير أننا فعلنا شيئًا عظيمًا.

 
الروتين المُتكرر رغم رتابته هو الذي يمنح لحياتنا قيمة ومعنى، ربما نجد أنفسنا في وقت ما بحاجة للتجديد؛ لكن بالطبع لن يكون التجديد مستمرًا بل سيكون هذا التجديد بمثابة الانتقال لروتين آخر يتماشى مع الظروف الحالية، لكن أبدًا لا تستقيم حياة أحد ما بلا روتين. حتى في الجانب المُتعلق بالعبادات توجد مواقيت شبه روتينية تتغير فقط تبعًا لتغير دورة الأرض حول الشمس كل عام؛ لكنها تبقى ثابتة بطريقة أو بأخرى؛ فلم نسمع أن عيد الأضحى أتى مرة بعد شهر رجب، ولم تأتي صلاة الجمعة يوم الأربعاء من قبل!

كثيرون منا يضجرون من كون حياتهم تسير على خط ثابت، والغد بالنسبة لهم متوقعًا، وبعد غد لن يختلف عنه بشكل كبير؛ هم لا يدركون أن هذا الثبات الشبه دائم هو في حد ذاته نعمة علينا شكرها، فما أجمل أن تمتلك هدفًا دائم، وطريقة حياة ثابته مع الأخذ في عين الاعتبار بالظروف التي تطرأ بين وقت وآخر. هناك آلاف الغرقى ممن يبحثون عن قشة يتعلقون بها لبر الحياة؛ هذه القشة لن تكون سوى روتين يتمثل في أي شيء كان: دراسة، عمل، أسرة.. ليس علينا أن نمل حيواتنا بعد اليوم مهما بدت لنا روتينية؛ فهذا الروتين هو ما يجعل لها معنى. لو سُلت لأي شيء أحن اليوم سأجيب بلا مواربة: روتين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.