شعار قسم مدونات

خواطر وجدانية

مدونات - قمر وغيوم
نور ونار
أراد عالِمٌ أن يحبس النور، وظنّ أن الضياء لم يُخْلَقْ إلا لأجله، فجمع جُمْلَة من المرايا، وصقلها حتى الجلاء، ومن ثم وضعها في ترتيب دائري، بغية استقطاب الأشعّة النورانية والاستئثار بها. وجلس في مركز الدائرة. لكن الأنوار ما عتّمت أن تحوّلت إلى ألسنة من اللظى تستعر وتلتهم العالم البائس. وتصاعد الدخان المنبعث من الجسد المتفحّم: "أنا النور مشاع لجميع بني الإنسان. من توهّم أنه يستطيع الاستئثار بي لنفسه دون سواه فسوف أتحوّل بين يديه إلى نار تلتهمه وتقطع دابره".
 
وكان في قصة هذا العالم المسكين عبرة لمن اعتبر.
  
نور

في ظلام الليل، حار المُقْتَبِسون في مسألةٍ أَعْضَلَتهم، وبذلوا أقصى الجهد في بحثهم عن القَبَسِ الهادي، ولكنهم كانوا كمن يدور في متاهة. فجاءهم الجواب الشافي من حيث لا يحتسبون: "ليس للنور علاماتٌ يُعْرَفُ بها ولا إعلان ينبّه لحضوره. النور منتهى المعرفة تستغني عن العلامات وأقصى الحضور يعلن عن نفسه. فمن جاء مدّعيًا أنه من طرف النور، مستشهدًا على صدق ادّعائه بعلامات تدعمه، ومعلنًا على الملأ ذلك، فالنور منه براءٌ براءة شمس الظهيرة من عتمات الدجى".

 

بدر ومصباح
ما للكلمات أضحت حبيسة الشفاه بعد غزير انبجاس؟ ما للأقلام هجرها المداد بعد أن ملأت السطور؟ ما للأفكار تبعثرت بعد أن جمعت الجميل بالجليل؟

رأى مُقْتَبِسٌ في سَفَر البدر بازغا ومتلألئا، فقال في نفسه: "هو ذا النور الذي كنت ألتمسه. الآن، وقد عثرت عليه، فإن بحثي قد انتهى". لكن الغيوم سرعان ما حجبت البدر خلف ستارها الكثيف، ودوّى من السماء صوت: "أنا البدر لا أَهَبُ نوري إلا للذين أحسنوا الاقتباس من مصابيحهم. عُدْ إلى حُجْرَتك، وأَنِرْ مصباحك، وأَحْسِنْ الاقتباس منه. وعندما تفرغ من مهمتك سوف تكون أهلا للاستضاءة بي". ومتى أعرف حين فراغي من مهمتي؟. "لا تقلق، عندما تفرغ من مهمّتك، ستجدني بين يديك ساطعا منيرا، كأنني سراجك الذي تفعل به ما تشاء".

 

طلاسم الكون

شوهد القمر يعلق على عنقه التمائم، وسمعت النجوم تتلو التعاويذ، فأصيب المشاهدون السامعون بالانشداه والتعجب، وأضحوا في وَلَهٍ وحيرة لمّا لمسوا عجزهم عن تفسير ما شاهدوا وما سمعوا، فقعدوا سويعات يتأملون ويتفكرون، وكأن على رؤوسهم الطير، إلى أن جاءهم النبأ اليقين: "مَنْ رُزِقَ حدّة البصر لكي يشاهد تمائم القمر، ومَنْ رُزِقَ جودة السمع لكي يصله صوت تعاويذ النجوم، فإن طلاسم الكون كله لا تفيه حقه!".

 

فراسة وفروسية

التقى رجلان -يجهل كل واحد منهما مَنْ هو صاحبه- وسط حشد عارم، فقال أحدهما للآخر: "أنت فارس هُمَام لا يُشَقُّ له غبار، بك يُضْرَبُ المَثَل بالحذاقة في الفروسية في هذا الزمن". كالمصعوق من هول الدهشة أجاب الفارس: "من أين لك أن تعرف كل هذا عني ولم يسبق لك قط أن رأيتني معتليا صهوة جواد؟ نعم أنا كذلك. لكن هل أنت من الذين كُشِفَ لهم الحجاب فعرفوا الغيب دون أن يحتاجوا لمعاينته؟" فكان الرد: "إن كنت أنت ماهرا في الفروسية فأنا ابن بَجْدَة الفراسة. والفراسة علّمتني أن مظهر الإنسان هو مخبره، ولو مهما حاول أي مخلوق أن يخفي ما هو عليه، متنكّرا خلف شتّى الأقنعة، فإن الذبذبات المنبعثة من أحشائه تنطق صادحة وصادقة بحقيقته. لذلك، لا أسرار، بل وضوح وإجهار وإشهار، ولكن فقط للذين يجيدون فك رموز الذبذبات. فهل عرفت الآن أن الفراسة فروسية من نوع آخر: لا يحب الأضواء ولا يجتذبها ولكنه أكثر شهامة ونبلا وحكمة؟".

 

كيف؟

كيف يتحول الينبوع الوادع الصافي إلى شلال هادر؟
وكيف يتحول النسيم العليل إلى إعصار هائج؟
وكيف تتحوّل الذُّبالة الخافتة إلى حريق هائل يأكل الأخضر واليابس؟
وكيف تضرب الزلازل المدن العامرة المزدهرة، فتجعل عمرانها خرابا وازدهارها ذبولا؟
وكيف تثور العناصر بعد هدوء وسكون؟
    
من سأل الألم، لم يعدم الجواب!

 

ما؟

ما للكلمات أضحت حبيسة الشفاه بعد غزير انبجاس؟
ما للأقلام هجرها المداد بعد أن ملأت السطور؟
ما للأفكار تبعثرت بعد أن جمعت الجميل بالجليل؟
ما للخدود ذبلت بعد أن أحياها التورّد؟
ما للقامات تعبت بعد أن أعيَتِ التَعَبَ؟
ما للآذان أصابها وقرٌ وقد كانت تسمع حتى الهمس الخفيّ؟