قد لا نجد ما يغني مدن لبنان أكثر من تاريخها، إذ يشهد هذا التاريخ على حضارات وإمبراطوريات حكمت العالم. كانت كلها ممراً طبيعياً إلى سواحل الشرق الأوسط ومنها لبنان وبلاد الشام، وقد شكلت هذه المدن المستقلة موانئ تجارية وعواصم مركزية للقرار لطبيعة جغرافيتها الاستراتيجية وأصالة شعوبها العرقية وتعددها الثقافي. فكانت طرابلس وبيروت على سبيل المثال، في قلب عواصم القرار الإقليمية تلك التي حكمت المنطقة في العصور الإسلامية خاصة، وإذ لا يسعنا التحدث عن كل التواريخ الماضية لمنطقة بلاد الشام لامتدادها وغناها، فمن المجدي تسليط الضوء على الحقبة العثمانية الأخيرة، لشرح الواقع الحالي للهوية الإدارية والسياسية لتلك المدينتين. فيبقى السؤال البارز هنا، ما السياق التاريخي الذي جعل من بيروت عاصمة لبنان الحديث، وطرابلس العاصمة الثانية لها؟
في كتاب أصدرته الجامعة اللبنانية، كلية الآداب سنة 1995 بعنوان "المؤتمر الأول لتاريخ ولاية طرابلس إبان الحقبة العثمانية" 1516-1916، يتحدث مجموعة من الباحثين والأكاديميين عن التطور التاريخي لمدينة طرابلس في تلك الحقبة ومقارنتها المتأخرة مع مدينة بيروت، إذ يذكر الدكتور حسين يحيى عن التقسيمات الإدارية الأولى لبلاد الشام.
عزى الدكتور ضاهر أسباب انكفاء مدينة طرابلس على نفسها لعدة أسباب غالبيتها سياسية أبرزها "ضعف وهشاشة الدولة العثمانية في ذاك التاريخ" إذ كان أهالي طرابلس شديدي التعلق بالسلطنة العثمانية |
بعد وصاية العثمانيين على بلاد الشام بداية القرن 16، جعل السلطان سليمان القانوني سنة 1521 مدينة طرابلس إلى جانب مدينة حلب ودمشق المراكز الإدارية الوحيدة لبلاد الشام. يقول الدكتور عبد الكريم رافق (المصدر نفسه) أن طرابلس ضمت حينها كل من حمص وحماه وسلمية وجبلة واللاذقية والحصن، حيث سُلخت ألوية حمص وحماه عن ولاية دمشق وضمت الى ولاية طرابلس في عهد سليمان القانوني. وقد أخذت هذه الولاية منحىً تطورياً، إذ بداية القرن 18، كانت طرابلس تضم كل المناطق الواقعة من اللاذقية شمالاً حتى الفتوح كسروان جنوباً إلى حمص وحماه شرقاً (أي ما مجموع كل من طرطوس، عكار، الضنية، الهرمل، الزاوية، بشري، الكورة، أنفه، البترون وجبيل)، حيث "كانت طرابلس مركزاً إداريا وتجارياً ثابتاً لولاية مترامية الأطراف، يتسع مجالها الحيوي في جميع الاتجاهات، فكان إشعاعها إلى عريش مصر جنوباً والى الإسكندرون شمالاً، حيث كانت تشكل المرفأ الأهم لجميع مقاطعات بلاد الشام الداخلية وصولاً إلى حلب" (الدكتور حسين يحيى المصدر نفسه).
في الصعيد نفسه، يتحدث الدكتور مسعود ضاهر عن المحور الاقتصادي لمدينة طرابلس في تلك الحقبة استناداً إلى الأرشيف الفرنسي، حيث تقول التقارير أن طرابلس وحلب كانتا أهم مدن لسكن التجار الفرنسيين والإنكليز والدوقيات الإيطالية سنة 1692، ما دفع الإنكليز إلى تعيين نائب للقنصل البريطاني لحماية هؤلاء التجار، إذ كانت قنصلية فرنسية و5 مراكز تجارية خاصة بها موجودة في مدينة طرابلس أيضاً. إن التقارير الصادرة عن القنصلية الفرنسية في طرابلس نهاية القرن 18 كانت قد رصدت كميّة الصادرات من مرفأ طرابلس، حيث تذكر التقارير أن حجم الصادرات سنة 1782 بلغ 100 ألف ليرة فرنسية، أما سنة 1785 فقد وصل حجم الصادرات إلى 3668 ألف ليرة فرنسية، ولكن سنة 1795، فقد بلغ حجم الصادرات 523 ألف ليرة فرنسية، في حين كانت الواردات تصل إلى نصف حجم الصادرات في بعض الأحيان (تحديداً سنة 1782). إن مثل هذه الحركة التجارية جعلت من أهالي طرابلس يمتلكون ثروات هائلة، إذ أصبح الأغنياء يشكلون طبقة واسعة في المدينة والجوار، كان من أبرزهم الرعايا الأورثوذوكس الذين كانوا يكنون عداءً شديداً للفرنسيين (حسب تقارير الأرشيف الفرنسي)، حيث كان أغلب التجار الأجانب في طرابلس من الفرنسيين. فيشير تقرير في شباط سنة 1813 أن هزيمة نابليون في روسيا لقت صدى فرح في طرابلس، حيث خرج الاورثوذوكس ينشدون في الكنائس والشوارع العامة.
لقد لعب المناخ الإقليمي دوراً في تقويم البنى الاقتصادية والسياسية لولاية طرابلس، كانت تترجمها التقارير الصادرة عن القنصليات الأجنبية فيها، إذ توقف الزمن عند تلك التقارير منتصف القرن التاسع عشر وبدأت حينها تنقل من مدينة بيروت المجاورة لطرابلس. وقد عزى الدكتور ضاهر أسباب انكفاء مدينة طرابلس على نفسها لعدة أسباب غالبيتها سياسية أبرزها "ضعف وهشاشة الدولة العثمانية في ذاك التاريخ" إذ كان أهالي طرابلس شديدي التعلق بالسلطنة العثمانية وحركتها السياسية والثقافية في المنطقة. وإذ بدأ الحكم الإداري يأخذ طابعاً أكثر استقلالية للمدن الشامية وغير الشامية، فقد لمع اسم أحمد باشا الجزار نهاية القرن 17، وتشير التقارير أن (بيروت قد تحولت في عهد الجزار إلى واحدة من أهم الموانئ الإقليمية خلال فترة قصيرة)، إذ عمل الجزار على تعزيز مكانة بيروت على حساب الولايات الأخرى.

وقام نهاية القرن 18، بتحريك جيوشه فاستولى على بلاد جبيل والبترون التي بدأت تنفصل تدريجيا عن وإلى طرابلس الضعيف وتلتحق بولاية صيدا التابعة للجزار. فتشير التقارير الفرنسية أنه تم استقبال القنصل الفرنسي لطرابلس في بيروت من قبل الشيخ غندور السعد، وقد اتفقا على تخفيف الجمارك إلى النصف عن ما تدفعه في مرفأ طرابلس. ففي سنة 1811، تحدثت التقارير الفرنسية عن أن السلع التي كانت تأتي من أميركا، فرنسا وروسيا، كانت كلها تصل أولاً إلى مرفأ بيروت ثم إلى طرابلس، إلى أن انسحب الفرنسيون نهائيا من تجارة طرابلس وقد باتت البواخر تتجه بغالبيتها إلى بيروت (تقرير 24 حزيران 1824). فقد انتقلت تدريجياً مصادر التقارير الأجنبية من طرابلس إلى بيروت. وقد ازداد الأمر سوءاً سنة 1830 مع الحملة المصرية على بلاد الشام واحتلالها لمدة عقد من الزمن، إذ عاقب إبراهيم باشا -المدعوم من البريطانيين- أهالي طرابلس لوقوفهم مع السلطنة العثمانية ضد جيوشه، حيث لم تعد القنصلية الفرنسية تصدر تقارير هامة عن مدينة طرابلس وأهاليها منذ تلك السنة، وبالنتيجة تحولت بيروت إلى المركز الأول في التجارة (تقرير 1 آب 1839).
لقد باتت الأضواء كلها مسلّطة على بيروت منذ ذاك التاريخ، إذ روى الصحافي البريطاني باتريك سيل في كتابه الجديد بعنوان "رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال"، أنه سنة 1860 فإن مرفأ بيروت قد استقبل 600 ألف طن من البضائع، بعد أن حطّت على موانئها 30 ألف طن فقط سنة 1830، إذ ربطت هذه المدينة بكامل أنحاء العالم سنة 1859 بواسطة التلغراف، وذلك بعد سنة واحدة(1858) من افتتاحها أول مصرف في الأقاليم العربية. فقد زاد عدد السكان فيها بدرجة قياسية من 19 ألف نسمة سنة 1846 إلى 115 ألف نسمة سنة 1895.
أما ثقافياً فقد أنشئت في بيروت أول مؤسسات التعليم العالي وتحديدا الكلية الإنجيلية السورية التي عرفت لاحقا بجامعة بيروت الأميركية وبعدها سنة 1875، افتتحت "الكلية اليسوعية" والتي عرفت لاحقاً بجامعة القديس يوسف. لقد كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولا مفصليا لولاية بيروت الناشطة، فقد اعترف الباب العالي لها سنة 1888 تحديداً كمدينة ساحلية وجعلها عاصمة لولاية جديدة ضمت 4 سناجق أساسية أبرزها طرابلس (إلى جانب عكا، نابلس، اللاذقية)، فأصبحت طرابلس تابعة لولاية بيروت المركزية منذ ذاك التاريخ، إلى أن جاء الانتداب الفرنسي، وجعل من بيروت عاصمة رسمية لدولة لبنان الكبير بحدوده المعروفة حالياً، ثم استقلالها السياسي سنة 1943 وتثبيت بيروت كعاصمة للجمهورية اللبنانية.
في النهاية، قد يكون من المفيد الحديث عن تاريخ المدن المركزية في لبنان، ومساراتها الاستقلالية في السياسة والتجارة. ففي ظل النظام المركزي الذي تتبعه الدولة وما يستتبعه من سياسات إنمائية، فإن الحديث عن تاريخ طرابلس الاقتصادي والإداري يشكل دافعاً لدى أهالي هذه المدينة في إعادة إحياء هذا المسار العريق، إذ أن سياسة المركزية المذكورة قد تهيئ لدينامية بناءة في تحريك العصب المدني القادر على توظيف روح المنافسة بين المجتمعات على كافة الأصعدة، وفي كل المجالات، خاصة في المجال السياسي والاقتصادي.