شعار قسم مدونات

الرجل الأزرق في مدينتنا

blogs الرجل ، تأمل

منذ أربعة عشر شهراً جاء رجل جوال، طويل القامة، ضخم الجثة، ذو رداء أزرق طويل يجتره خلفه، يمشي طرقات مدينتنا. تحيطه هالة من الغموض، لكن لا ينتبه إليه أحد؛ فكلٌ في شأنه ملهيّ. ينظر الرجل بعينين لا يتبينهما الرائي، ويتأمل بهما أحوال الخلائق. يدون ما يراه ويلحظه على ورقة بواسطة حبر أسود. لا يتكلم ولا يُسمع له إلا صوت تحركه؛ كحفيف أوراق الشجر أو جناحي طائر يحط فوق غصن عال.

جال الطرقات والشوارع والأزقة وربما صعد البنايات أو نظر خلف حاويات النفايات، كل مكان دل على وجود بشري ذو علامة ما تربط الموجودين.. بدايةً لم ينتق مكاناً بعينه. بل نظرة شاملة سريعة. المحال التجارية فارغة وممتلئة، إشارات المرور مكتظة بالسيارات والباعة الجائلين، جسور تخفف حدة الزحام ومارة يتخللهم اليأس والغضب والمرض. أماكن الترفيه وأماكن العمل كلاهما يلقى رواجاً كبيرا فعلى ما يبدو أن مدينتنا أصغر من سكانها فهم فوق بعضهم البعض في كل مكان.

في الشهر الأول مكث قليلاُ في منزل يقوم على أساسات زجاجية لامعة وجميلة، تفتن الناظر إليه فتجذبه جذباً. تزينها إضاءات بألوان بديعة. غير أن المنزل لم يتزين بساكنيه الذين بدا من وجوههم ضياء يُخفي خلفه الحنق. فبين الجمال البادي والقبح الخفي يتقلبون.. حالهم مع زائريهم كالحيوان يصيد فريسته فيوقعها في موقع لا مفر فيه من الهروب، فإما العيش قهراً أو الموت ظلماً. لم يُدوّن الرجل الأزرق شيئا.

أمام هذا النهر الجاري، وفوق تلك الجنان الخضراء، مع تحليق الطيور هنا وهناك، وأصوات لعب الاطفال، أقام الإنسان لدينا واقع غريب، هذا الواقع الذي يتكرر في كثير من بقاع العالم

في الشهر الثاني، انتقل إلى مكان عمل بعض العامة. يشكلون نحو عشرة أفراد. يأتون صباحا باكرا يُنجزون عملهم ثم يرحلون مساء قبل الثامنة. السيدة الأولى صارمة وشديدة ورغم ذلك تُسيّر الأشغال بشكل منضبط. ثلاثة رجال وخمسة سيدات. تعمل السيدات بتفاني سوياً على الإثم والعدوان، ويتعاون الرجال على النساء، والنساء على الرجال، وبعضهم على بعض، وكل منهم مع رئيستهم. إذن لا خير هنا.. لا تفكر في الهرب، رجاءاً!

في الشهر الثالث، كانت الوجهة إلى مشفى عام. مُزدحم الطرقات في ساعات الاستقبال الصباحية. يكاد لا يخلو سيل الأقدام من جري وهرولة ومشية مُتَلِكِّئ ومتألم. وسط الحشد يضيق المتزاحمين من صعوبة التنفس والروائح الكريهة، كما يصدر عنهم ضوضاء من فم كل متكلم وصراخ الغضاب من حين لآخر. في الأدوار العُليا يرقد كل ذي شكوى في سريره، ينتظر ما يحل به من خير وشر. والشر لا يأتيه إلا من طرف قصي لا يعرفه، لكن ذلك الطرف قد عزم أن يحيل نهار المريض ليلاً لا تزيله شمس! ذلك بأنه أخذ من صاحب الحق ليعطي غير المُستحِق، وأكل من نصيب هذا ليقضي لنفسه ما يريد. فالأهواء هنا تحكم للأعالى كي يستبدو بمن هم في الأسفل.

في رابع شهر، عَرَّجَ الرجل على عرس شعبي كبير، يتزعمه أصحاب الكلام الجميل وقعه على الآذان. ترقص فيه النساء ويصفق لهن الرجال، وتمتلئ الآفاق بدميم الأصوات والأغنيات فتُهيج في نفوس الحضور أبشع المشاعر وأكثرها تشوهاً. حتى لا يخلو المشهد من راقصة وعاهرة وديوث وفرعون.. لعلنا نقول مئات الفراعين. كان المشهد يضم جانباً آخر، حيث في منطقة مجاورة عم الظلام والسكون فيها. هناك توجد نفوس عليلة، عِلّتُها في صِحتها، تبكي دموعاً وتصرخ صمتاً. حارهم كيف يبكون موتاهم والطبل يجاورهم، يُخوّفهم بالتنكيل والترهيب.. دّون صاحبنا كلمة ثم رحل.

أمام هذا النهر الجاري، وفوق تلك الجنان الخضراء، مع تحليق الطيور هنا وهناك، وأصوات لعب الاطفال، أقام الإنسان لدينا واقع غريب، هذا الواقع الذي يتكرر في كثير من بقاع العالم. فهو لم يقنع أبداً بما لديه. لطالما كان ينظر هنا وهناك ليرى ما لديه وما ليس لديه، ويقول هل من مزيد؟ فيُقال له لا! فيقول بل نعم إثماً وعدواناً حتى لم يدع على البسيطة من لم يشكوه إلى الله.. فلما شكوه إلى الله، هاله الأمر فزاد بطشه ووعيده. ماذا يفعل الرجل الأزرق؟ إنه فقط يتجول هنا وهناك، يعرف بالذي حدث، يدون ملاحظاته صغيرة أو كبيرة. جميهم يعلمون بوجوده المعنوي. يعضهم يعيره اهتمام وآخرين تعمى أبصارهم عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.