كنت أسمع كثيراً عن الشباب المغترب وما يعانيه من صعوبات ومشاكل في الغربة.. خاصة إذا كان صغيراً أو وحيداً… يخرج الشاب من وطنه سواءً كان بإرادته أو مجبراً علي ذلك فيسافر إلي بلد آخر فيعيش بين أناس مختلفين وثقافة مختلفة عن ثقافته.. فيكون واجب عليه أن يتكيف قدر المستطاع مع هذه البيئة الجديدة ومع هؤلاء الناس الجدد. جذبتني قصة شاب صغير مغترب.. خرج من بلده دون إرادته وذهب إلي بلد آخر لتكون مأمن له وليكمل مسيرته التعليمية.
تدور في ذهن هذا الشاب خواطر يومية لا تحصي.. هل سيعود لبلده مرة اخري؟ فمتي إذاً؟ الواقع لا يبشر بهذا.. الأمور تزداد سوءً يوماً بعد يوم… هو مشتاق جداً لبلاده ولأهله… اشتاق لأبيه.. الذي يحاول جاهداً أن يكون عند حسن ظنه.. ويحاول بكل الطرق أن يدخل الفرحة علي قلب أبيه.. وأن يرسم البسمة علي وجه بعد أن أزالها الزمن.. يحاول أن يجعل أباه فخوراً به وأن يعوض عن تقصيره في حقه وهو معه.. لقد ودّع أباه أخر مرة قبل سفره لكنه لا يدري هل سيجتمعان مرة اخري أم لا.
يأتي الليل وتأتي معه كل الآلآم والذكريات.. يتذكر عندما كان صغيراً.. كان لا يستطيع أن يبيت بعيداً عن بيته وبعيداً عن أمه وأبيه يوماً واحداً. لم يكن يتوقع أنه سيأتي الوقت الذي يبيت فيه أياماً بل شهوراً بعيداً عن بيته وأهله.. كيف أستطاع أن يصبح قوياً هكذا ليتحمل هذا البعد؟ في الحقيقة هو لم يصبح قوياً لهذه الدرجة.. تأتي عليه بعض الأيام فيتذكر أمه فلا يتمالك نفسه فيبكي شوقاً إليها.
شاب نال من الحياة ظلماً وحزناً ليس بالقليل.. لم تعفه الحياة من ظلمها ولا من غربتها ولا حتى من أمراضها. لا تجعله يبقي سعيداً لبضعة أيام ثم تغرقه بالهموم والأحزان. هو يعلم أن كل شيء من تقدير الله وأن كل هذه الابتلاءات ما هي إلا اختبارات له من ربه.
لكنه بشر.. تعب من هذه الحياة التي لا تطيقه والتي لا تبقي له عزيزاً.. أصبح وحيداً لا يجد من يتحدث معه أو من يدخل السرور علي قلبه. يخاف أن يموت وهو في غربته وليس معه أحد حتى ليودعه.. يمرض فلا يجد من يرعاه.. يتعثر فلا يجد من يقويه ويشجعه على النهوض. عندما يتصل بأهله يرسم علي وجه ابتسامة غالباً ما تكون ابتسامة مصطنعة ليخفي بها الآم كثيرة حتى لا يجعل أهله يقلقون عليه. هو أصبح قوياً وقادراً على مواجهة هذه التحديات التي تواجه في حياته.
عندما يستعرض ذكرياته القديمة يتذكر الأيام التي عاشها مع أخيه الأكبر والأوقات الجميلة التي قضاها معه.. والنصائح التي كان يقدمها له والتحفيز الذي كان يمده به.. أين أخاه الآن؟ في غياهب السجون لا يستطيع أن يراه أو حتى أن يسمع صوته…افتقد أخاه كثيراً وافتقد نصائحه وتحفيزه له.. فلا يجد غير الذكريات التي تجمعه به.
شاب عاهد نفسه أن يكون مخلصاً لدينه وناصراً لقضيته التي هاجر لأجلها والتي وقع عليه بسببها هذا الظلم الكبير.. يحزن عندما يري الشباب الذين خرجوا أيضاً بسبب نفس القضية نسوا قضيتهم وانشغلوا في حياتهم الخاصة.. وأصبحوا يسخرون من من ما زال مهتم بقضيته وبما خرج بسببه. أكثر ما يخيفه هو مستقبله الغامض الذي لا يري له أي بصيص أمل.. هو الآن طالب في الجامعة.. لكن ماذا بعد ذلك؟ أين سيكون بعد الجامعة؟ وماذا تخبئ له الحياة من أمور؟ لكن على الأقل هو واثق من أنه سيستطيع أن يتخطى أي شيء ما دام قلبه متعلق بربه.
عندما يجلس ليحصي حصاد تجربة الغربة هذه.. فيكتشف أنها خلقت فيه شخصاً آخر ومنحته قدرات لم يكن ليتمتع بها لو بقي حيثُ وُلد.. هو الآن شخص جديد قد رُزق مفاهيم اخري للحياة وطرقاً جديدة لاكتشافها. وتجربة إنسانية ثرية. حتى يكاد يشكر هذه الفتنة على ما فعلته به.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.