شعار قسم مدونات

قيم المجتمع بين الماضي والحاضر

مدونات - مصر قديما

قديماً كان المجتمع هو صمام الأمان لحفظ الأخلاق والقيم من الضياع والاندثار، وكانت أعرافه المتعارف عليها بين الناس بمثابة قانون موثق يصعب اختراقه أو تجاوزه، وكان المجتمع قديماً متماسكاً إلى حدٍ بعيدٍ وكانت النخوة والشهامة والتسامح والعفو ووجود المُصلحين من أهل الخير بين الناس أبرز مظاهر المجتمع السائدة آنذاك، وكانت المروءة والحياء أصلاً مؤصلاً بين الناس رجالهم ونسائهم وصغارهم وكبارهم، وكان احترام الكبير سواءً أكنت تعرفه مسبقاً أم لم تعرفه كفرضٍ من فروض الصلاة يستحيل التخلي عنه.
 
ورغم قساوة الحياة في ذلك الزمن القديم إلا أنه كان زمناً جميلاً يعبر عن الحياة الكريمة ويعطي للإنسان مكانته، وكانت فيه أجواء السعادة والراحة، وكان للأشياء معنى وقيمة رغم قلتها وندرتها وبساطتها، علماً أن كثيراً من الأمور التي عايشناها اليوم لم يُعايشها أجدادنا ولا حتّى آباؤنا، لا زلت أذكر كيف كان أبي يُحافظ على بيتِ جاره في غيابه؟ وكيف كان يُرسل أُمِّي الأمية لتطرق باب الجيران لتسأل عنهم وتتفقد أحوالهم وماذا ينقصهم من حاجاتٍ واحتياجيات؟ ولا زلت أذكر كيف كان الجيران يتبادلون صحون الطعام فيما بينهم رغم أن أوضاع الناس المادية كانت قليلة لكنها كانت نفوسهم عظيمة وكان الطعام يخلو من النكهات والمقبلات ومع ذلك كان لقرقعة هذه الصحون نكهة ولذة لا يمكن نسيانها، في الماضي كان للمناسبات رونقها.
 
ما يجعلك تزداد غرابة وربما دهشة أن الناس في ذاك الزمن القديم لم يكن التعليم سائداً كما هو اليوم في أوساطهم، ولم تكن المدارس والجامعات متوفرة بالطريقة ذاتها اليوم، ولم يكن أعداد المتعلمين بهذه الكم الهائل وبالكاد أن يتجاوز أصابع اليد أعدادهم، ولم تكن المساجد الفاخرة في كل زاويةٍ من زوايا المدينة أو القرية أو البادية، كانت المساجد بسيطة في مبناها عظيمة في معناها ورسالتها وقيمها، ورغم ذلك كله كان المجتمع قديماً فيه الحياء والتكاتف والتعاون والتعاضد ويتخلله العطاء بلا مقابل، ويسوده الهدوء والتراحم والمحبة والاحترام، وكان المجتمع نوعاً ما يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع وكان كالجسد الواحد فيما بينهم فإذا مرض أحدهم مرضوا معه، وإذا احتفل أحدهم بمناسبة ما فرحوا معه، فلا تكاد تعرف من أصحاب الحفل ومن هم أهل المتوفى من شدّة الترابط والتماسك.
 

يا بُنيَّ تخيل حتى الفقراء لم يسلموا من ذلك، فتجد من يُحاول مساعدتهم يسعى لالتقاط صورةٍ تذكارية هو يُوزع طرود الخير لهم بغية الشهرة هذا ما أفسدته مواقع الاجتماعي لدى النفوس المريضة

كان التكاتف الاجتماعي هو السمة الأبرز التي اتصف بها الناس آنذاك، كبرنا اليوم وتغير الماضي القديم بحجة التقدم ومواكبة التطور، أذكر أني ذات يومٍ جلستُ بجوارِ أبي يحفظه الله وتجذبنا أطراف الحديث سوية عن الزمن القديم وفجأة وبدون مقدمات قاطعتُه قائلا له: إن مواقع التواصل الاجتماعي هي التي أفسدت علينا لذة الحياة ونكهتها وشتت شملنا وجعلتنا نكن العداء لبعضنا وأفشت أسرارنا، تبسم أبي ثمّ قال:

 

يا بُنيَّ تريث قليلاً ولا تكن منفعلاً وفي إصدار الأحكام عجولاً فإن الانفعال والعجلة من الشيطان وهما من يُفسدان عليك حياتك ويُحطِّمان أحلامك، يا بُنيَّ إن مواقع التواصل الاجتماعي لم تفسد عليكم حياتكم كما تزعم، وإن المجتمع لم يتغير كما تدعي، وأن مواكبة التطور والتقدم هو أساس النهضة والرقي لأي مجتمع من المجتمعات، يا بُنيَّ عليك أن تدرك أن ما كان صالح لزماننا لم يعد صالحاً لزمانكم، وأن الذي تغير جوهر الإنسان ومعدنه، في زماننا لم نكن أنبياء كما تتصور لكننا كنا أنقياء وصادقين مع ذواتنا وكنا لا نحترم المخادع ولا نُجالس في مجالسنا من يتصف بالكذب، باختصار كنّا نُحارب خوارم المروءة بكافة أشكالها من أعماق قلوبنا رغم قلة العلم الذي بحوزتنا..

 
اليوم يا بُنيَّ كما ترى كثر المتعلمين، وزادت المساجد وانتشر الوعاظ، وأصبح في كل مدينة وقرية جامعة وكلية، أصبحت الرقاصة تُصدر أحكاماً والناس لها تصفق وأصبح لدينا مدربين تنمية بشرية، ومشرفين تربويين، ومسميات أُخرى لا حصر لها، لكنها يا بُنيَّ لم تُحدث تغييراً إيجابياً في المجتمع ولم تكن لديها رسالة تُحاول غرسها لأنّها تخلو من الجوهر والحس بالمسؤولية، وتهتم بالشكليات والمظاهر، فمثلاً تجدهم يسعون لملء جيوبهم وكروشهم والتقاط صورٍ تذكارية مزيفةٍ من أجل إظهارها في مواقع التواصل الاجتماعي.

 
يا بُنيَّ تخيل حتى الفقراء لم يسلموا من ذلك، فتجد من يُحاول مساعدتهم يسعى لالتقاط صورةٍ تذكارية هو يُوزع طرود الخير لهم بغية الشهرة هذا ما أفسدته مواقع الاجتماعي لدى النفوس المريضة، لكنها ساهمت في نشر الأخبار وصناعة الأحداث من قلبها، فما كان في زماننا من الوصول للمعلومات البالغة الصعوبة أصبح اليوم سهل المنال ومتاح حتّى وإن حجبوا المواقع، يا بُنيَّ حتّى لا أُطيل عليك في الزمن القديم كان المعلم له مكانة واحترام، وكان إذا تجوّل بقريةٍ أو مرَّ بمدينة يحظى بكل الاهتمام والرعاية والتقدير، وكان التلاميذ لا يجرؤون بأن يُخبروا أهاليهم أن المعلم قد علّقنا على أعواد المشانق، اليوم يا بُنيَّ هُمش المعلم وتمَّ تكبيله وأُفرغ من دوره وتمّ التجييش عليه، والتقليل من شأنه وازدراءه فما نراه من ضياع للأخلاق واندثار للقيم سبب بالدرجة الأوّلى النيل من رسالة المعلم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان