شعار قسم مدونات

الجزائر تزُفُ الشهداء مرة أخرى

مدونات - طائرة الجزائر سقوط

لطالما كنا نحن هنا في الجزائر لا نُقدم إلا التضحيات الجسام، وأسراب الشهداء عندنا لا تُغادر إلا إذا كانت جحافل يعجز العقل البشري على استوعاب أرقامها لأول وهلة. طائرة عسكرية من نوع إليوشين 76 روسية الصنع مخصصة للنقل والامداد تسقط بالقرب من مطار بوفاريك بالبليدة بُعيد دقائق من إقلاعها بعدما اشتعلت بها النيران وتُسقط معها 257 شهيدا وألاف المحزونين واليتامى والثكالى والمفجوعين.
   
والمضحك المبكي أن التقنيين أكدوا على أن الطائرة صالحة للطيران إلى غاية ديسمبر 2023 رغم أن أجزاءها مربوطة فيما بينها بسلك شائك على الأرجح شارك في الحرب العالمية الثانية. واكتفى الرئيس ببرقية باردة منمقة هو في الحقيقة لا يدري عنها شيئا ولم نلمح أثرا لأفراد العصابة الحاكمة ولم نسمع لهم صوتا، وغرد التلفزيون الرسمي الجزائري بدبلوماسيته المعهودة خارج السرب كعادته فبثوا الشريط الوثائقي ووفوا لإشهار المواد الغذائية حقه ومستحقه، وسيبقى التحقيق في بلدي جاريا إلى الأبد ولن نسمع النتيجة مهما كانت صلة قرابتنا بشهداء الطائرة ومعلاق -القضاء والقدر- سيبقى عندنا مستعدا لرفع أثقال كل تهمة وتميمة نؤنا بحملها وما اصطبرنا عليها.
   
نملك في الجزائر شبابا موهوبا لا تشوبه شائبة ولا ينقصه شيء، ولكننا كذلك نمتلك خردوات لا تصلح لشيء على شاكلة طائرة الأليوشن المعمرة والسانبول -نوع من السيارات جزائرية الصنع إلى حد ما- المدمرة وغيرهما الكثير، فعندما كسبنا رهان العنصر البشري في شخص إسماعيل دوسن خسرنا رهان التكنولوجيا في طائرة عمرها أكبر من عمر من كان عليها، حُملت أكثر من طاقتها تماما كما يتحمل الجزائري كل يوم في ساحة معركة الحياة اليومية. أتساءل ماذا كان سيكون مصير أولئك الشباب لو أنهم ولدوا في بلد غير هذا البلد ولم ينهضوا بمهمة الذود عن أرض الوطن، نعم ربما سيكون القضاء قدرا محتوما وسيقضون نحبهم في ريعان شبابهم وفي سن فتي كذاك الذي كانوا عليه ولكن الأرجح أن طريقة وفاتهم ستكون أقل إيلاما، حيث سيجد الأب أجزاء ابنه متلاحمة على شكل جسم بشري لا رمادا كما وجدناهم هم، وستجد الأم قبرا يحوي وليدها فتتعهده بالزيارة بين الفينة والأخرى بمناسبة وبدونها على عكس الأم الجزائرية التي لن تجد لها عزاء غير دموعها وبعض الصور التي التقطها على حين غفلة من الزمن، وسيجد أبناءه مرتبا محترما احتراما لما قدمه والدهم لوطنه وهو ما لن يحدث في بلدي ولنا في قضية الناجي الوحيد من حادثة أم البواقي خير دليل وشاهد.

 

رحم الله شهداء الجزائر، والشهداء الذين سيلحقون حتما إذا ما استمر مسلسل اللامبالاة واستمرت حكاية الاستهتار. وعظم الله أجرنا في وطن كلما تناسينا الآلام شبرا أخذ منا شهداء كرة أخرى أفواجًا أفواجا

الشهادة عندنا تختار، تُصر دائما على الشباب وفي الغالب لا ترضى بسواهم، ومن بين الشباب تختار بعناية فائقة الخيرة، والخيرة فقط أبناء الجزائر العميقة وحدهم يموتون أبناء الشعب الذين يستيقظون كل صباح باكر يفتشون بين ركام البلاد عن لقمة عيش بغض النظر عن ما شابها سواء كان خطر موت محدق أو تعب مجهد وعزاءهم الوحيد "المهم خدمة".

 

ستنقم بعد هذا على كل شيء وأي شيء على الأليوشن وروسيا وأسئلة الصحفية البلهاء وموعد بث مباراة البارصا، ويوم الـ11 من كل شهر الذي صادف للمرة الثانية يوم سقوط الطائرة في بوفاريك بعد طائرة جبل فرطاس بأم البواقي التي سقطت يوم 11 فيفري 2014 والطائرة عسكرية هي الأخرى من صنع أمريكي خلف سقوطها 77 شهيدا.

 

وسيبقى بصيص الأمل يُطالعنا من بعيد في روح الطيار إسماعيل دوسن الذي أبى إلا أن ينقذ أرواح الأبرياء ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فقاوم الموت وأجله لثواني منقذا أرواح من كانوا على الأرض بعدما علم أن روحه وأرواح من معه في طائرة الموت ستبقى هناك في السماء ولن تعود إلى أرض الوطن مجددًا، وفضل إسقاطها في منطقة فلاحية بعيدة عن الطريق السريع ووسط المدينة.
 
في الحقيقة السلطات عندنا لا تتعظ إلا بعد الكوارث -وقد لا تفعل- وما حادثة وفاة الأم الحامل بمدينة الجلفة عنا ببعيد، توفيت المرأة وقبلها وبعدها المئات من النسوة بسبب التهاون الطبي تارة وقلة العتاد وبعد المسافة واهتراء الطريق السريع شرق- غرب "أو بالأحرى سرق- نهب" أطوارا أخرى، عندها فقط تحركت وزارة الصحة ففتحت تحقيقا لم ينته إلى الآن.
   
undefined

  

وليست الطائرات عندنا فقط المهترئة الأمر كذلك بالنسبة للحافلات والطرقات وأسقف البيوت وأرضية العمارات وشبكات توصيل الغاز والكهرباء وأسرة المرضى وأجهزة التعليب ومعدات البناء ومواد لكن لن يُحرك أحد ساكنا ما لم يمت المئات بعد. أما الحالات الفردية والضحايا الذين يموتون لوحدهم وبأعداد قليلة فحظهم قليل وهم ولا شك كانوا سيؤولون إلى الزوال لسبب أو لأخر، والقضاء والقدر شماعة جاهزة أبدا لتحمل وزر هؤلاء وعزاء الجميع إنك ميت وإنهم لميتون.

 

من ذا يواسي أما تنتظر شهر رمضان لتكتحل عيناها بعودة صغيرها الذي يُصر عليها في كل مرة ينام على صدرها أنه كبُر وصار على عاتقه مسؤولية حماية البلد ولم يعد وليدها المدلل، ومن سيُجيب على أسئلة الطفل وهو حائر كيف تحرق الجزائر أبناءها وهم الذين تعهدوا لها بحمايتها من كل دخيل فلم يُدخلهم اللحود غيرها، من هو العدو الذي قتل والده بالضبط، الطفل صغير سيحتاج والده حتما لكنه حُرم منه ومن حقه أن يعلم من حَرمه سواء للانتقام أو حتى للاطمئنان ولا إجابة لكل ذلك إلا دمع مهراقة على خد والدته، ثم من ذا سيُقنع صبية بعمر الزهور تنتظر عودة خطيبها ليُتما معا مراسيم الزفاف بعد أن أثقلت العادات الخرقاء كاهلهما، من سيُقنعها وهي التي كانت تُحدثه قبل برهة عن أخر ما اقتنته استعدادا لزواجهما من سيقول لها بأنه لن يعود ولن يتم الزواج ولن ترى نفسها عروسا تُزف له..

 

رحم الله شهداء الجزائر، والشهداء الذين سيلحقون حتما إذا ما استمر مسلسل اللامبالاة واستمرت حكاية الاستهتار. وعظم الله أجرنا في وطن كلما تناسينا الآلام شبرا أخذ منا شهداء كرة أخرى أفواجًا أفواجا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.