شعار قسم مدونات

العِبادَة الأفضَل مِن العِبادة

مدونات - رجل تأمل تفكر
في عالَمنا الكَثير مِن الأمور التي تَستَحِق أن نُعطيها الحَق ولو بالقَليل مِن ذِهنِنا لِنَشرُد بِها، حَتى لَو بالإحساس الدَاخِلي، فَهُنالِك دائماً ما تَصرِف عَليه مِن طاقة أحاسيسِك، لكن لا تَصرِفها دُون أن تَستفيد مِنها وتَجعَلها غَير مَهدورة، كَيف ذلك؟ فَقط أضِف على هذه الأحاسيس تِلك التَركيبة أو ذلك الشيء السِحري الذي سَيأخذك مِن مَكانِك إلى عالَمٍ آخر، إنه "التَفَكُّر".

 
لو نَظرتَ إلى السَماء وراقَبتَ الغيم الذي يطفو سابِحاً في الهَواء، يتغيّر شكله ولونُه وحَجم كَثافتِه حسب عِدّة أمورٍ شأنُها أن تَجعَل مِن الغيمة مَخلوقاً لَم يُوجَد عَبَثاً، كَما غَيره مِن المَخلوقات جَميعاً. لو سَمِعتَ كُل ما يَدور حَولَك وحَاولتَ إغماض عَينيك وسَبِحتَ في خَليطِ تِلك التَناغُمات التي تَصدُر عَن مُختَلَفِ الكائنات والجَمادات وحَتى صَوت الفَراغ، وإذا تَعمّقت أكثر؛ سَتَبتَعِد عن مُحيطِك أكثر، أتَعلَم أنه لِكُل صَغيرٍ صَوت ؟ كالنَملِ مَثلاً، ولو ذَهَبتَ للأكبَر فالأكبَر، أتَعلَم أن حَتى للفَضاء أصوات ولِكُل كَوكبٍ صَوته الخاص؟

 

لو استخدَمت حاسّة الشَم واستَشعَرتَ بِأن كُل رَائِحة لَها تَركيبَتها الخَاصّة التي تَستطيع أنت بِخِبرتك ودُون استِخدامِ نَظَرِك أن تَعرف أصلَ تِلكَ الرائِحة ؛ لِوَردة لِفاكِهة لِنار لِدَم لِتُراب لِنَوع عِطرٍ مُعيّن، وحَتى أنك تُمَيّز بَين أنواعِها كالرائِحة الجَميلة والرائحة الكَريهة، كُل ذلك تَستَطيع تَحليله بِمُجَرّد أنه دَخَل أحد المُعَدّات المُجهّز بِها جِسمُك، أي أنك تَستَطيع تَوجيه أجهِزَتِك واستِخدامها في مُحاولة استيعاب الكَون الذي خُلِق بِدِقّة مُتَناهِية.

 

أغلِق عينيك..
أتَشعُر بِقطَراتِ المَطَر عِندما تُلامِس وَجهَك بارتِطامٍ لَطيف ؟
أتَشعُر بِنَسَمات الرِياح وكَيف أنك تَختَرِقها وتُفَتّت تَرابُطَها ؟
أتَشعُر بِتَدَفّق الدّم الذي يَسري في عُروقِك ؟
أتُقَدِّر أن ما تأكُله يَتَحوّل بِطَريقةٍ ما لِطاقة تَشغيليّة ؟
أتَستَطيع أن تُدرِك تَجانُس كُل الاختلافات المُتَناقِضة مِن حَولك؟
أتستَوعِب أن الخالِقَ لِكُل هذا وذاك هُو مَن يُدَبِّر أمرَك أنت، ويُسَيِّر كُل ذَرّة في الكَون أيضاً؟

 

هُنالِك صِلَةٌ بَينَ الإنسان وهذا الكَون، تَجعَلُه مُترابِطاً مُنسَجِماً مَعه، فَإنه مَفتوحٌ أمامَه لِيَنهَل مِنه ما يَستَطيع ويَصُبّه في داخِل عَقلِه الذي لا يَشبَع مِن المَعرِفة ولا يَهدأ عَن الفُضول

هَل تَخيّلتَ يَوماً أنك خُلِقتَ على هَيئةٍ غَير الإنسان؟ كَأن تَكون شَجَرة أو تُراباً أو عصفور، فهذا تَحديداً سَيُساعِدك على التَفَكُّر أكثَر وعلى شُكر خالِقِكَ على ما أنت فيهِ مِن نِعَم.. كُلما استَطَعت أن تَستَخدِم قُدرَة التَفَكُّر في أن تَستَشعِر ما حَولَك أو حتى ما كان ليسَ بِالقُرب مِنك؛ فَلا تتأخّر في ذلك، سَواء عَن طَريق أن تَرى أو تَسمَع أو تَشُم أو تَلمس أو تَذوق، فاستَمتِع بِالتَفَكّر بِكُل ذَرّة مِن الكَون بِدءاً مِن التَفاصيل الدَقيقة ووُصولاً لِأعظَمِ المَخلوقات التي استَطعنا استِيعابها للآن؛ كالمَجرّات والسَماوات والفضاء الواسع الذي لا نَستطيع حَصرَه ولا إحصاءه، ثُم انظُر مِن نُقطَة أبعَد وأبعَد وحاوِل أن تَشرُد بِذِهنِك في كُل هذا.. هذا العالَم الذي مَهما تَمَعنّا بِه لَوجدنا أننا جُزء صَغير مِن ذَرّة، ولا زال أمامنا الكَثير لِنَعرِفه، ومَع ذلك لَن نَستطيع أن نُدرِك كَيفية عَملِه الدَقيقة التي تَمشي دُون أخطاء.

 
إن التَفَكُّر عِبادةٌ مَنسِيّة، لا يَعلَم أثَرها إلا القَليلون، انفَرِد بِنَفسِكَ وتَفَكّر، هُنالِكَ الكَثيرُ مِن التَفاصيل التي تَستَحِق أن نَتمَعّن بِها، وساعةُ تَفَكُّرٍ أفضَلُ مِن يَومٍ في عِباداتٍ أُخرى أحياناً. التَفَكُّر عِبادة الأنبياء، والتَفَكُّر يُنير لِصاحِبِه دُروباً لَم يَعرِفها مِن قَبل، لأن مِفتاحَ دُخولِها هُو اعطاء الحَق لِرُوحِك ونَفسِك بالتَفَكُّر، وعِندَما تُبحِر بِمُحِيطه الواسِع وتُكَرِّر التَجديف فِيه ؛ سَيَعجَزُ عَقلُك عِندَها ويؤمِن بِتَفَرُّد خالِقٍ لَم يَكُن لَه كُفُواً أحد.

 

هُنالِك صِلَةٌ بَينَ الإنسان وهذا الكَون، تَجعَلُه مُترابِطاً مُنسَجِماً مَعه، فَإنه مَفتوحٌ أمامَه لِيَنهَل مِنه ما يَستَطيع ويَصُبّه في داخِل عَقلِه الذي لا يَشبَع مِن المَعرِفة ولا يَهدأ عَن الفُضول. ولِكي تَصِل لِأعلى صَفاءٍ في هذه المُمارَسة، اختَر مَكاناً يُشبِه بِهُدوئِه وعُزلَتِه وخُصوصِيّته غارَ حِراء، وصَفِّ ذِهنَك مِن هُمومِ حَياتك، وحاوِل التَركيز في شَيءٍ واحدٍ وتَتَبَّعه وعِش تَفاصيلَه الدَقيقة واستَشعِر قُدرة العَظيم الذي أحسَن كُل شَيء، ولا تَدَع التكنولوجيا والعالَم المُحيط أن يَحرِمك لذّة الطَعم.

 

كُلُّ ما كَتَبتُه هُنا لَن يُوفي التَفَكُّر حَقّه ولا يُقارَن مَع دَقيقة تَفَكُّرٍ حَقيقيّة، وكُلما استَطَعتَ أن تُعطيهِ جُزئاً مِنك أكبر؛ سوف يُحَلّق بِك مِن مَكانِك أكثَر..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.