شعار قسم مدونات

"ياسر" سافر قبل أن يحقق حلم بيسان!

مدونات - ياسر مرتجى والطفلة بيسان
في موجة من سحق ملامح الحياة وإقامة مقابر للموت الجماعي، كان قدر "بيسان" أن تبقى على قيد الحياة، فلم تسلم تلك الصغيرة من فاجعة الموت الموحش لمّا كانت شاهداً حياً على إزهاق روح والديها وأربعة من أشقائها وأهل بيتها، حتى غدت زوايا الغرف المعتمة مكانا آمناً لاستجلاب مشاهد أشلاء ذويها خلال العدوان على غزة عام 2014.
 
بدأ الأمل يشرق في قلب "بيسان" من أضيق الأبواب، ليخضر شيئا فشيئا بعد أن تحول إلى صحراء قاحلة تجمع فيها ما تبقى من ذكريات جمعتها بوالديها وأشقائها، إلى أن أزهرت بفعل فاعل مُخلص لروحها البريئة من كل ذنب أذى قلبها. فكان لـ"بيسان ضاهر" حكاية تربطها بالشهيد الصحفي "ياسر مرتجى"، بدأت حين كانت في عمر الثامنة وقت أن خرج لها في وقت يشبه تناثر الجدران، لا صوت يُسمع سوى غارات الطائرات الحربية، خرج ينادي بين ركام البيوت التي سقفت على أصحابها: "مين عايش يحكي يتنفس يصرخ؟".
 

كان لـ "ياسر" حلم اتفق مع حلم بيسان وتصدر أولوياته، تلخص باكتمال ملامح وجه "بيسان" الذي كلما نظر إليه "ياسر" قال لها: "سنسافر إلى أمريكا ونكمل آخر مراحل العلاج لتصبحين أجمل فتاة على وجه الأرض"

إلى أن باغتته الصغيرة "بيسان" بصوتها المنهك بالصراخ والبكاء "إحنا ثلاثة هنا عايشين طلعونا"، على الفور ناصرتها زوجة أخيها بالصراخ والمناجاة التي قاسمتها الأنفاس وقاسمتها الإصابة تحت عتمة الأسقف الإسمنتية المدمرة. لم يتوقع "ياسر" أن يجد من الأحياء من يتكلم ولو بحرف واحد، أصابته تلك الأصوات بالصدمة والدهشة والخوف في وقت واحد، فلم يكن وجوده هنا سوى لتوثيق الحالات الناجية من العدوان بكاميرته الخاصة، وعلى عجل اتصل بالجهات المختصة بانتشال الأحياء من تحت الأنقاض.

 
قابلته ردود الجهات المختصة بخطورة الموقف إن كان الخبر صحيحا، ما يحتاج لضرورة التنسيق بين الاحتلال وبين الصليب الأحمر للسماح للطواقم الطبية والدفاع المدني بالدخول إلى المناطق المنكوبة في حي الشجاعية، وهذا يتطلب وقتا كبيراً يمكن خلاله أن يفقد الأحياء أنفاسهم الأخيرة المتبقية في أجسادهم. بقي "ياسر" على إصراره في الإسراع بإنقاذ الأحياء، حتى بادرت طواقم الدفاع المدني بعد تردد كبير من المخاطرة بحياة كل من وقف في هذه المنطقة المنكوبة، تخلل ذلك استجلاب لـآلة "الكباش"، إلا أنه لم يسمح الاحتلال بإدخالها.
 
بدءا من اختلاق فتحة صغيرة تمرر الضوء للأحياء إلى أن أصبحت تسمح لدخول شخص واحد بصعوبة بالغة، خرج الأحياء الثلاثة ومن بعدهم تم انتشال خمسة من الأجساد الباردة كانت قد فارقت الحياة. مثلما انتشلت طواقم الدفاع المدني جسد "بيسان" المصاب من تحت الأنقاض؛ انتشل "ياسر" روحها من مشاهد الأشلاء والدمار التي خيمت على ذاكرتها، وحده نجح برسم ابتسامتها مجددا ومصاحبتها ومحادثتها، فقد أعارها جل وقته ليكن لها الطبيب المداوي لمآسيها. فكان لها أخاً عزيزاً يصحبها إلى أماكنها المفضلة، يتناول برفقتها الأطعمة الشهية والمشروبات التي تشير عليها بنفسها، حتى أنه لم يغب عن حياتها المدرسية، فكانت له زيارات دورية يسأل عن تحصيلها الدراسي ويطمئن على كامل أمور حياتها.
 
 

 ياسر مرتجى والطفلة بيسان (مواقع التواصل)
 ياسر مرتجى والطفلة بيسان (مواقع التواصل)
  
طويت ابتسامة بيسان، وعادت تلتزم زوايا غرفتها المعتمة، امتنعت عن الحديث إلى أحد، بكت بيسان وسالت دموعها قهرا على فراق أخيها الذي أخبرها بأنه لن يغيب عنها مهما حدث، فلن تتمكن من سماع صوته بعد اليوم، حتى العيد وهداياه لن تطل عليها بعد رحيل ياسر.
 
كان لـ "ياسر" حلم اتفق مع حلم بيسان وتصدر أولوياته، تلخص باكتمال ملامح وجه "بيسان" الذي كلما نظر إليه "ياسر" قال لها: "سنسافر إلى أمريكا ونكمل آخر مراحل العلاج لتصبحين أجمل فتاة على وجه الأرض"، ولكن رصاصة "قناص" الاحتلال اخترقت جسد "ياسر" وكانت أسرع من تحقيق حلم بيسان!.
 
لم يكن عبد الرحمن ذو العامين وحده طفل الشهيد "ياسر مرتجى" الذي أمسى يتيماً كما أصبح؛ فلقد ترك خلفه أيضا الطفلة "بيسان" صاحبة الذكريات الأليمة ومعها أشخاصاً كثيرون، حتى أنه بدى وكأنه بطل حكاياتهم وابتسامة يومهم وشخصيتهم الملهمة في دروس الحياة التي وصلت إلى ذروة القسوة، فكان شهيد الحقيقة الذي غدا في خضم أدائه لمهمته الصحفية في تغطية أحداث مسيرة العودة الكبرى.

وبين ثنايا هذه التفاصيل الإنسانية المؤلمة يصعب علينا نحن رسم خط يحدد نهايات الحياة، ففي الوقت الذي كان يحلم الشهيد الصحفي "ياسر مرتجى" بتبادل الأدوار بينه وبين والد "بيسان" – الشهيد الأول الذي قضى تحت الأنقاض وقتذاك – محاولا تعويضها عن غيابه؛ باغتت رصاصة الاحتلال الغادرة جسد "والدها" الثاني مجازا لتخترق كل خطوط حياتها وحياته من جديد، ولتؤكد على أن القتل واحد، والمجرم واحد، والنهاية واحدة، شهداء في جهة وآلام وفراق وأحلام مقتولة في جهة أخرى، وفي الوقت نفسه عالم صامت يتفرج على فصول الجريمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان