شعار قسم مدونات

أم هم ضلوا السبيل!

مدونات - طالب علم

"لقد جلَّت أهل الإسلام جولةً وعلومُهم، وركبت البحرَ الأعظمَ وغصَّتَ في الذي نُهُوا عنه؛ كلُّ ذلك في طلب الحقِ وهربًا من التقليد. والآن فقد رجعت عن الكلِّ إلى كلمة الحق. عليكم بدين العجائز. فإن لم يدركني الحق بلطيف برِّه فأموتُ على دينِ العجائزِ ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص. فالويل لابن الجويني"
(أبو المعالي الجُويني)

 

كنتُ ذاتَ مرةٍ في إحدىَ دوراتِ مسيرَّتي التعلُّميةِ، وكانت إحدى المحاضراتِ ذاتَ طابعٍ خاصٍ، ليتغيرَ المكانُ فيصبحُ في قاعةِ (الإمام محمد عبده) بكليةِ أصولِ الدينِ بجامعةِ الأزهرِ، وعندما أقولُ قاعة الإمام محمد عبده لا بدُّ أنْ يكونَ أولُ ما يقعُ في بالِك صورةَ قُبَّتِها وكذلك سِعَتُها التي بلغت ذُرْوَتها، وحتى لا أطيلَّ عليكم فقد تغيرَّ المضمونُ العامُ للمحاضرةِ بالمرة؛ حيثُ أنه قد خرجَ عن برنامجِ الدورةِ التي قد أعلموننا بها في الإعلانِ.

 
في هذا المكانِ العريقِ ويسأل أحدُ الحضورِ وهو طالبًا من بقيةِ الطلابِ؛ أللهُ وجهٌ على صفة ذاته لقوله عزَّ وجل: "ويبقَى وجهُ ربِكَ.." ألله يدٌ وأصبعٌ لقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم "يضعُ السمواتِ على إصبعٍ" وله قدمٌ -إلى غير ذلك مما تضمنته الأخبار-؟ ليكونَ الردُ مِن قَبل شيخٍ مِمَن يمثلون الأزهرَ -أو مذهبًا مُعيَّنًا- في اجابةٍ ومنها أن ما وقعَ فيه السائلُ إنَّمَا هو من مفهومِ الحسِّ، وإنما الصوابَ قراءةُ الآياتِ والأحاديثَ من غيرِ تفسيرٍ ولا كلامٍ فيها، وما يؤمنُ السائلُ أن المرادَ بالوجهِ الذاتَ لا أنه صفةً زائدةً، وعلى هذا فسَّر الآيةَ جمهورُ المحققين، فقالوا: ويبقى ربُك، يريدونهَ. وأشار للسائل قائلًا: ما يؤمن أن يكون أراد بقوله "قلوبُ العبادِ بينَ إصبعين"، أن الإصبعَ لما كانت هي المقلَّبةُ للشيء وأن ما بين الإصبعين يتصرفُ فيه صاحبُها كيف شاء لا أنها صفةً زائدةً.

 

صِنفٌ غُلاة يتعاملونَ معَ المصطلحاتِ -المُختلفِ في مضمونها- تعاملًا سطحيًا ساذجًا يحاكمونَ فيهِ الناسَ إلى فهمهمُ الضيقِ لتلك المصطلحات، دونَ مراعاةٍ لاختلافِ أفهامِ الناسِ وقناعاتهم

وقال جمهورٌ من حضور القاعة وهم صنف آخر من الطلاب: نعم، أن اللهَ له ما ذُكِر، ولكن توقف عند قوله تعالى (ليس كمثله شيء)؛ فلله تعالى أيدٌ ووجهٌ وأصبعٌ بخلاف ذاتنا سائر الخلق. وبذلك سرعان ما استثارت الأصوات داخل هذا المكان وباتت تلاشي كل صيحة قبيلتها. على كلٍ فنحنُ نعلمٌ جميعا أنَّهَا كُلَّها أمورٌ عقائديةٌ، والقصدُ منها المثوبةُ، ووسيلتُها الاجتهادُ. كان مشهدًا وليس هذا وحده فحسب.

 

لِذا.. إنني وإن أردت أن أخصَ هذا المقالَ لأحدٍ لَمَا كتبت؛ فلا يليقُ بكلماتهِ إلا إهداءً لهم.. هم طلابِ العلمِ من أبناءِ جيلي والمشتغلين به من علمِ التجارةِ والأدبِ إلى الطبِ والهندسةِ فالقانونِ والشرعِ والتشريعِ، ولا بد للقارئ أن يعلمَ جيدًا أنَّه ما كان لحسامٍ أن يتناولَ كهذا الموضوعِ إلَّا لحاجةٍ في نفسهِ. ثُمَّ أسأل اللهَ كمَا سأله ابن الجوينيُ من قبلي: عسى الله أن يختمَ عاقبةَ أمري عندَ الرحيلِ بكلمةِ الإخلاصِ!

 

لا ينحصِرَ مَنْ ضلوا عِندَ المشهدِ إنذاك:
دعونا نرى؛ يبدأ الأمر عادةً مِن الانحيازِ، بل التبعيةِ المطلقةِ من قبلِ البشرِ للبشرِ؛ إن كان الأولُ طالبَ علمٍ فهو يُقتادُ، والآخرُ وإن كان جماعةً أو أصحابَ مذهبٍ أو فكرٍ. فالأولُ مقلِّدٌ على غير ثقةٍ فيمَا قلَّد فيهِ. والتقليدُ والاقتيادُ اِبْطَالٌ لمنفعةِ العقلِ، وإن استحوَذ عِظمُ الشخصِ على قلبِ الآخرِ، ليتبعونَ قولَه مِن غيرِ تأملٍ أو تدبرٍ لِما قال. وهذا عينُ الضلالِ؛ لأن النظرَ ينبغي ألا يكونَ دونَ القائلِ مِن القولِ، كما قال ذلك عليّ رضيَّ الله عنه للحارثِ بنْ حُوط، وقد قال له: أتظن أنَّا نظن أن طلحةَ والزبيرَ كانا على باطلٍ، فقال له: يا حارث إنه ملبوسٌ عليك، إن الحقَّ لا يُعرَفُ بالرِّجالِ، اعرفْ الحقَ تعرفْ أهله. وكان أحمد بن حنبل يقول: "من ضيقِ علمِ الرجلِ أن يُقلِّد في اعتقاده رجلًا".

 

إنَّ إبليسَ لَمَا تمكَّنَ مِن الأغبياءِ فورطهم في التقليدِ وساقَهم سوقَ البهائمَ، ثم رأى خلقًا فيهم نوعُ ذكاءٍ وفطنةٍ فاستغواهم على قدرِ تمكُّنهِ منهم. فمنهم من قبَّحَ عنده الجمودُ على التقليدِ وأمره بالنظرِ ثم استوى كلًا مِن هؤلاءِ بِفنٍ؛ فمنهم من أراه أن الوقوفَ مع ظواهرِ الشرائعَ عجزٌ فساقهم إلى مذهبِ الفلاسفةِ ولم يزلْ بهؤلاءِ حتى أخرجَهمَ عن الإسلامِ، ومِنْ هؤلاءِ مَنْ حسَّن له أنْ لا يعتقدَ إلا ما أدركته حواسُه؛ فيُقَال لهؤلاءِ: أبالحواسُ علمتم صحةَ قولِكم؟ فإن قالوا: نعمْ. كابروا لأن حواسَّنا لم تدركْ مَا قالوا.. إلى آخرٍ نفَّرهَ إبليسٌ عَن التقليدِ وحسَّنَ له الخوضَ في علمِ الكلامِ والنظرَ في أوضاعِ الفلاسفةِ، ليخرجَ بزعمهِ عنْ غمارِ العوامِ. يقولُ الشافعيُ رحمَه الله: لِأنْ يُبتلَى العبدُ بِكلِ مَا نَهى اللهُ عنه ما عدا الشركِ خيرٌ له مِن أن ينظرَ فِي الكلامِ". وقالَ: "وإذا سمعت الرجلَ يقولُ: الاسمُ هو المسمى أو غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام".

  undefined

 

وصِنفٌ غُلاة يتعاملونَ معَ المصطلحاتِ -المُختلفِ في مضمونها- تعاملًا سطحيًا ساذجًا يحاكمونَ فيهِ الناسَ إلى فهمهمُ الضيقِ لتلك المصطلحات، دونَ مراعاةٍ لاختلافِ أفهامِ الناسِ وقناعاتهم، فإذا استقرَّ في ذهنهم تعريفٌ محددٌ لمصطلحٍ ما، وكانَ للمصطلحِ أكثر من تعريفٍ متداوَل، ضربوا بها جميعها عرض الحائط، وحكموا على الناسِ وموقفهم من المصطلحِ بناءً على فهمهمُ الأوحد، رغم ادراكهم لماهية الاختلافِ، وهم يُصِرون على هذا السلوكِ اصرارًا عجيبًا يُوحِي بطفولةٍ فكريةٍ تتّسِمُ بالسطحيةِ والعناد.

  

آخرٌ يشككُ في حديثٍ ثبتت صحتهُ بالبحثِ والتدقيق، وبالوسائل المنهجية العلميةِ الواضحَة، ويميلُ فِيمَا دونَه، زاعمًا أنهُ لا يثق بجهودِ المحدثينَ -وإن جلَّ منهم- في تنقيح الأحاديث، ثم تجده نفسَه وقَد استدلّ بقصةٍ تاريخيةٍ -لا سندَ لها أصلا-، ليبني عليها طعنًا في نوايا الصحابةِ وتشكيكًا في عدالتهم! يستدل بها دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتدقيق في مدى ثبوتها؛ والأعجبُ من ذلكَ أن يجعلها أساسًا من أسسِ عقيدتهِ وفكرهِ، بل ويعلمُّها ويلقنُّهَا لِمَنْ حولَه، ضارِبًا بذلك كلَ الشعاراتِ الزائفةِ التي لطالما رددَّها تعبيرًا عن عقلانيتهِ ومنطقيتهِ ومنهجيتهِ العلميةِ في البحثِ والاستدلالِ. أمثالُ هؤلاءِ يجيدون رصفَ كلماتِهم، وتزيينَ خطاباتِهم، لكنهم لم ينجحوا يومًا في أن يكسبَ أفكارَهِم الهشّةَ الصلابَةَ التي تكفُلُ لها أحقيةَ البقاءِ.

 

لمحاتٌ من مقولاتِ السلفِ وعلماءِ الإسلامِ المتقدمين:
– يقول الإمامُ أحمد بن حنبل: (لا يفلحُ صاحبَ كلامٍ أبدًا. علماءُ الكلامِ زنادقةٌ)
– ويقولُ ابن الجوزيُ: (وتبعَ أبو عبدالله بن كرَّام فاختار من المذاهبَ أردأهَا، وَمِن الأحاديثَ أضعفَها، ومالَّ إلى التشبيهِ، وأجازَ حلولَ الحوادثَ في ذاتِ الباريِ سبحانه وتعالى. وقال: إنَّ اللهَ لا يقدرُ على إعادةِ الأجسامِ والجواهرَ إنَّما يقدرَ على ابتدائَها. وقالتَ السالمِّيةُ: إن الله يتجلَّى يومَ القيَّامةِ لكلِ شيءٍ في معناه؛ فيراهُ الآدميُ آدميًّا والجنيُّ جنيًّا. وآخرون قالوا: إن الله سرٌّ لو أظهره لبطُلَ التدبيرَ).
ويتبع نقلَه كلامُه معلِّقًا: أعوذُ باللهِ مِن نظرٍ وعلومٍ أوجبَت هذه المذاهبَ القبيحةَ.

 

– ويقول أحمد بن سنان: (كان الوليدُ بن أبان الكرابيسي خالي، ولَمَا حضرته الوفاةُ قال لبنيهِ: تعلمون أحدًا أعلمُ بالكلامِ مِني؟ قالوا: لَا، قال: فتتهمونني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بِمَا عليهِ أصحاب الحديثِ فإني رأيتُ الحقَ معهم).
– وكان الجويني يقولُ لأصحابه: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلامِ، فلو عرفتْ أنْ الكلامَ يبلغُ بي ما بلغَ، ما تشاغلتُ به".
– ويقول أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: "أنا أقطعُ أن الصحابةَ ماتوا وَمَا عرفوا الجوهرَ والعرضَ، فإن رضيتْ أن تكونَ مثلهم فكُنْ، وإن رأيت أن طريقةَ المتكلمين أولىَ من طريقةِ أبي بكرٍ وعُمرٍ فبِئس مَا رأيت".

 

خِتامًا، إنه قد أفضى الكلامُ بأهلهِ إلى الشكوكِ وكثيرٍ منهم إلى الإلحادِ، ليصبحَ أنْ تشمَ روائحَ الإلحادِ من فلتاتِ كلامِ المتكلمين. وعلى الطلابِ والإخوانِ فضَّ مَا يدورُ بينهم مِنْ نزاعاتٍ وأن يغنيَّ كلًّ مِنهم الاجتهادُ في الاشتغال فضلًا عَنْ الاِنشغالِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.