لم تكن الأمة بحاجة إلى ضبط بوصلتها وتحديد هدفها كحاجتها لذلك في تلك الأيام العصيبة، ويبدأ الطريق إلى تحديد الهدف بلمحة تاريخية سريعة نؤكد فيها على أن الله تعالى قيض الدولة العثمانية لحماية الأمة قروناً عديدة، حافظت فيها على وحدتها ومقدساتها وهويتها، حتى تمكن المتآمرون بعد جهد جهيد من إسقاطها، فضاعت المقدسات، واغتُصبت الأوطان، وذهبت الوحدة وعمت الفرقة.
ونتج عن إسقاط الخلافة أمران:
الأول: واقع جغرافي جديد يتمثل في تنفيذ خريطة سايكس بيكو على منهجية التتشتيت والتفريق التي ظلت مائة عام واقعا مفروضا على الأمة، حتى تآكلت دعائم دولة سايكس بيكو، وتهاوت مقوماتها، وسقطت معالمها وبَليت قواعدها، وتصدعت جدرانها، فلم تعد تقوى على الاستمرار. ومن هنا فواهم من يعتقد أن تعود اليمن يمناً كما كانت، أو الشام شاماً كما عاشت، أو مصر مصراً، أو العراق عراقاً، أو أن يبقى الخليج خليجاً، لكن يقينا ستبقى الشعوب والجماهير.
الثاني: حركات إسلامية، وتيارات إصلاحية وتنظيمات دعوية ومؤسسات شرعية حافظت على هوية الأمة، وغرست القيم، ودافعت عن معالم الدين ومبادئه منذ إسقاط الخلافة إلى وقتنا هذا. وبمرور الزمن أيضا تآكل الكثير من مقومات تلك التنظيمات، وتصدع الكثير من جدرانها، وضعف في نفوس الناس أثرها، وقل اكتراث الناس بالتوجيه الديني بصفة عامة نظراً للآثار الناتجة عن تعرضهم لكل تلك الكوارث والفواجع، ومنها صدمتهم في كثير من الرموز والمؤسسات والتيارات الإسلامية!! وواهم كذلك من يعتقد أن تعود تلك التنظيمات والتيارات والمؤسسات إلى سابق عهدها وعظيم أثرها، ولكن يقينا سيبقى خيرها، وسيبقى الإسلام والمسلمون.
وهنا أتساءل بكل جدية ووضوح ونحن على أبواب حقبة جديدة نتسلح فيها بالأمل ونتأهب فيها للعمل، ونستشرف فيها آفاق المستقبل:
لم يتبق إلا خيار وحيد نُدفَع إليه مجبرين، يتمثل هذا الخيار في الانحياز الكلي لقضية صلبة أو أرضية مشتركة أو مشروع جامع تتوفر فيه المشروعية المجتمعية، والمظلة الشرعية، والإجماع الشعبي |
ماذا نريد؟؟
هل نريد إعادة الأمة الواحدة التي حمت المقدسات وحفظت الأوطان؟
أم نريد إحياء دولة سايكس بيكو التي ألِفنا العيش فيها قرنا كاملا ذقنا فيه مرارة الطغيان وآلام الحرمان، ومذلة التبعية ؟
أم نريد إعادة تنظيمات الحركة الإسلامية بكل ما فيها معتقدين أنها الدين الباقي والرسالة الخالدة؟.
وأعتقد أننا إذا أحسنا الإجابة على هذا السؤال فإنه من اليسير بعدها أن نخرج من أزمتنا وأن نحدد وجهتنا، وأن نعلن رؤيتنا وأن نُعِد وسائلنا وأدواتنا.
وأؤكد كذلك على أن الأمة مرت بمراحل كثيرة سقطت فيها أنظمة عديدة، وفقدت فيها أوطاناً ورواداً وقادة وعلماء وبقي الخير في الأمة قائما، والدين في الأرض واصباً، فبقاء الأمة لا يرتبط بوجود أحد أو فقده. وأؤكد على أن السعي لإبقاء دويلات سايكس بيكو على قيد الحياة بنفس معالمها ومنطلقاتها عبث فكري، وتخلف عقلي، وانحراف شرعي، وجهل بتاريخ الصراع، ماضيه وحاضره ومستقبله. وأن التيارات والتنظيمات الإسلامية لا تنوب عن الأمة في شيء، وليست هي الأصل في النهوض، ولكن ربما تساعد الأمة في انطلاقها، وتساهم في استنهاض طاقاتها وإمكاناتها، مع التأكيد على أن بقاء الأمة ونجاحها ليس محصوراً ولا مرهوناً بوجود تلك المؤسسات والتيارات من عدمه.
ومن هنا لم يتبق إلا خيار وحيد نُدفَع إليه مجبرين، ولا نسير إليه مختارين. يتمثل هذا الخيار في الانحياز الكلي لقضية صلبة أو أرضية مشتركة أو مشروع جامع تتوفر فيه المشروعية المجتمعية، والمظلة الشرعية، والإجماع الشعبي. يتمثل الحل في الانحياز لراية تُرفع، يؤمن الناس بقدسيتها، وتتفق الأمة على نصرتها وتتسابق الأيادي لنجدتها، مع التأكيد التام على أن هذه الأمة لن تموت، وسيبقى الخير فيها إلى يوم القيامة ما بقي الدين وما بقيت الحياة. ومع التأكيد كذلك على أن هذه الأمة لا تنقصها الطاقات والإمكانات ولكنها للأسف عندها فائض في إهدار تلك الطاقات والإمكانات لغياب الرأس والمشروع.
فهل يمكن أن نلتف حول راية نقاتل دونها، ونستضيء بهديها، ونجمع عليها شتاتنا، ونحشد فيها طاقاتنا، ونستثمر فيها جهودنا، ونوحد عليها صفنا؟ فما هي تلك الراية، وما هو ذلك المشروع؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.