شعار قسم مدونات

ولن ينصركم الله

blogs - chess

يحلو للكثيرين -هروبا من الواقع البئيس- أن يصفوا المعركة بينهم و بين مخالفيهم بمعركة "الحق والباطل" وهو وصف بعيد كل البعد عن الحقيقة. بل هي معركة بين القوي وبين الضعيف، بين من يجتهد ليملك أسباب الانتصار وبين من يتواكل على تاريخ بعيد لمن سبقوه ، وممنياً نفسه بأماني عبثية لا يمكن تحقيقها – على الأقل في الغد المنظور- لأن زمن المعجزات قد ولى.

وصراحةً لا يمكن تحديد ولا الاتفاق على مفهوم الحق من وجهتي نظر متقابلتين ترى كل منهما أن الحق معها وما عدا ذلك فهو الباطل المطلق، ولم يعد هناك مجال لقولة الإمام الشافعي الخالدة:

"قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب" الآن صارت المعادلة واضحة " من ليس معي فهو عدوي"
ثم إن الإشكالية الكبرى هي في اعتقاد الكثيرين أيضاً أن الحق-حقهم- لا بد وأن ينتصر، مع أن هذا منافي للسنن الكونية وللحقائق التاريخية ولمنطق الأشياء الذي يؤكد أن الحق كثيراً ما انهزم أمام الباطل، بل وكثيراً ما مكث وحيداً لا يجد ناصراً ولا معيناً بعد أن تخلى عنه أهله خوفاً من عقاب أو طمعاً في ثواب.

وحوادث التاريخ خير شاهد ولنا في تاريخ بيت المقدس عبرة، ولنا في الأندلس عظة، ولنا بلاد الشام عِبراتُ وعَبرات.
وكم نسمع الآن من دعوات على الظالمين والمجرمين والمتجبرين بدعوى أن الدعاء سلاح ماض وهو أضعف الإيمان.
بينما تؤكد الشواهد أن هذا لا يأتي بثماره المرجوة وذلك لأن شروط الداعي لم تتحقق بعد.

وحتى الأنبياء لم يُنصروا وحدهم بصلاحهم وإيمانهم وبقربهم من الله وفقط، بل كان لهم رجال وحواريون نصروهم وأخذوا بأسباب القوة واستعانوا على أعدائهم – أهل الباطل- بما أُمروا أن يستعدوا به فكانت لهم الغلبة والفتح، ولما تراجعت أسباب النصر لم تحابيهم سنن الله.

حتى الذين يحاولون تضميد جراحاتهم بنصوص من القرآن الكريم والسنة يتناسون أن هذه الخيرية لا بد لها أولاً من تحقق وصف وحالة الإيمان وليس الأمر بالانتساب وفقط

والذين ينتظرون عودة (يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان الملقب بصلاح الدين والدنيا) يتناسون أن صلاحاً لم يكن وحده الذي حرر المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين بل كان معه علماء ورجال صدقت عزائمهم وصلحت قلوبهم وأعدوا عدتهم جيداً لملاقاة عدو يعلمون أنه استعد جيداً ولا يهزم بالصلاة والدعاء فقط .

في مسرحيته التي كانت ميلاداً لما سمي لاحقاً ب" مسرح العبث" أو " مسرح اللامعقول" جسد الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت حال الملايين من أمة العرب والمسلمين عندما صور من خلال نصه مشهد بطلي المسرحية الشريدين (استراغون) و (فلاديمير) وهما واقفين في العراء في ظل شجرة لا أوراق فيها ينتظران المخلص (غودو) ويشغلان نفسيهما بذكريات الماضي والحديث عن الأحلام وتلاوة سطور من الكتاب المقدس الذي يؤمنان به، وينتهي اليوم الأول والثاني والثالث في انتظار (غودو) المنقذ، وتمر الأيام وتزهر الثمار حولهما ويكسو الشجرة ورقها الأخضر وهما لا يزالان يحكيان حكاياتهما ويتسامران وينتظران الذي لن يأتي إلى أن يقررا الانتحار لأنه لا منقذ لهما.

ذكرتني هذه المسرحية بأحوال المنتظرين والمنظرين على صفحات التواصل الاجتماعي الذين يقفون في العراء (الفضاءات الوهمية) يحاربون طواحين الهواء كما حاربها الفارس الحالم الغارق في أوهام بطولات الماضي العريق (دون كيشوت) في رائعة الكاتب ميخائيل دي سرفانتس في القرن السادس عشر الميلادي. 

وقد أوجز الشاعر "نزار قباني" حين قال في قصيدته "اعتذار لأبي تمام"

أبا تمام .. إن النار تأكلنا 
وما زلنا نجادل بعضنا بعضا .. 
عن المصروف .. والممنوع من صرف .. 
وجيش الغاصب المحتل ممنوع من الصرف!! 
وما زلنا نطقطق عظيم أرجلنا 
ونقعد في بيوت الله ننتظر .. 
بأن يأتي الإمام على .. أو يأتي لنا عمر 
ولن يأتوا .. ولن يأتوا 
فلا أحدا بسيف سواه ينتصر..

وربما يقول قاريء: كفاك تثبيطاً وتخذيلاً يا هذا..نحن أمة لا تموت وهي موعودة بذلك فمن أنت لتقرر هكذا أن الله لن ينصرنا؟ من أنت؟
وأقول لصاحبي: نعم قد لا تموت الأمة لكن من الوارد جدا أن يقدر لها أن تعيش ذليلة، كسيرة، مفتتة على امتداد خارطة الكوكب لأزمان وأزمان تقتات الذل وتتجرع الهوان، وكيف ينصر الله أمة عاجزة متناحرة على حساب أمة قوية متماسكة؟

حتى الذين يحاولون تضميد جراحاتهم بنصوص من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة، يأخذون ما يوهمهم بأن النصر آتِ لا محالة ويقولون بأن أمر المؤمن كله له خير. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ويتناسون أن هذه الخيرية لا بد لها أولاً من تحقق وصف وحالة (الإيمان) وليس الأمر بالانتساب وفقط.

ثم إن شرط النصر هو أن نبادر أولا ً بنصر الله في شتى الميادين ..أن ننصره على أنفسنا وعلى شهواتنا وعلى أحقادنا وعلى خلافاتنا.. أن ننصره في ميادين أنفسنا قبل ميادين المعارك، وأن نعدل بننا وأن نتعامل بالحسنى وأن نتراحم ونقبل أعذار بعضنا ويشد بعضنا بعضاً..فهل نستأهل النصر ؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان