وهل رأيت شيئا بعد! جملة سمعَتها معظم الأمهات الجدد، كلما تحدثَت عن صغيرها الذي استضافة عالمها جديدا، وكأن قائلَتها تريد أن تبث الرعب في قلبها مما هو قادم. هذه الفوضى في حياتها الجديدة، خصوصيتها التي ذابت مع وجود طفل لا يتركها تهنأ بجلسة استرخاء أو هدوء، أو تستمتع بحرارة كوب الشاي الساخن، نوم الليل الذي أصبح من أحلامها البسيطة، و… و..
كثيرا ما نركز في حياتنا على أرباع الأكواب الفارغة، نعلن أننا نختلف عن نسق الأباء بشكله التقليدي في التربية، ثم ننزلق دون أن نشعر في متاهات الحياة لننتهي إلى ما كنا ننتقده سابقا.. ماذا لو فكرنا في التفاصيل الصغيرة الحلوة في يومياتنا المزدحمة! هل فكرت يوما ما قيمة أن تضم صغيرك وتشمه حتى الامتلاء!
هل حدثتك نفسك أن من أجمل متع الدنيا حين تمرر خدك على خد صغيرك الناعم وتسري في جسدك نغمة هادئة للحظة ستمضي في قطار العمر. أن تركض خلف أولادك في منزلك تبحث عنهم في الغرف متصنعا الصمم عن ضحكاتهم المكتومة وتوصياتهم بالسكوت لئلا تكتشفهم، أن يتسلق صغيرك ظهرك وأنت منهمك في عمل مهم متكلما بلغة الطفولة "أنا هنا".
بقدر ما نحبهم فإننا نلهج لهم بالدعاء في سجودنا، نهمس لهم أننا نحبهم لأنهم مهجة قلوبنا ولا يمكن لتلك المشاعر أن تتغير مهما كان ومهما صار.. |
أن "تتصابى لهم" كما وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعود معهم طفلا في أعمارهم، تتشاقى معهم، تناقشهم بجدية في قضاياهم الصغيرة. أن تتذكر حقا أن الطفل ليس وجبة فطور وغداء، وواجب مدرسي لا بدَّ من انهاؤه، وملابس نظيفة. هذا الطفل عالم كبير يموج بالتحدي، وبقدرات تبهرنا في هذا العمر. أن إنسانا كاملا يتشكل في هذا الجسد الصغير، يحمل في رأسه عقلا نهما للمعرفة، للخبرات الجديدة، يبني الملايين من الوصلات العصبية خلال سنيه الأولى، أن هذا الطفل قد يكون شخصا آخر تماما إذا ما تعاملت معه بالطريقة الخطأ.
أن تراقبهم وتتعلم منهم صبرهم على المحاولات الفاشلة لفك لعبة، إصرارهم على عدم إخبارهم بجواب احجية قبل أن يحاولوا هم، طريقتهم الخلاقة في تنسيق الالعاب أو رسم الأشكال أو غيرها مما يتفرد به طفلك.
كثيرا ما يأتيني صغيري ذو الأعوام الست ويسألني أسئلة استغرب ورودها على باله، إلا أنني أعتبرها تحدِّ لعقلي أنا وقدرتي على الإقناع، لا سيما الأسئلة العلمية أو العقائدية، وقد يستغرب القارئ إذا ما قلت له إنه حقا يقلب أحيانا الصورة حتى إنه وبسؤاله يكشف أمامي وجوها أخرى للمعاني لم يكن عقلي يراها كذلك!
لاشك أن التحديات في تربية الطفل كبيرة، وأن ليس كل ما تحدثنا عنه كتب التربية الحديثة يمكن تطبيقه على واقعنا مع الأبناء، إلا أن الحقيقة التي لا شك فيها أن البذور الحسنة والأرض الجيدة والاعتناء المحب لا بدَّ أن ينتج نبتة حسنة.
ولأن تلك التحديات تكبر مع كل سنة تمضي من عمر الطفل، سواء بسبب تطوره العقلي والإدراكي، أو بسبب ثورة التكنولوجيا التي تكاد تلتهم أعمارنا وبراءة أطفالنا، لأن تلك التحديات تكبر، أتساءل: لماذا ليس هناك تعليم أساسي كحد أدنى للآباء والأمهات في أبجديات التعامل مع الأبناء، تعليم أساسي كما تعلمنا مبادئ القراءة والحساب، إذ أن الخطأ والتجربة في الأبناء قد تعود بالألم والضرر على الابن والأب والمجتمع.
في النهاية: قد تكون هناك أوقات صعبة، وكل منا له قصته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد، إلا أنني كلما تذكرت أن هذه المرحلة من العمر ستمر، وأن الصغار سيكبرون، وسيمضي كل منهم في طريقه الخاص، أشعر بأن الوقت ينسل مني دون أن أروي نبتتي بما يكفي من الماء، لتعود وتظللني غدا.
كلما تذكرت أن هذا البكاء لن يستمر، وعراك الدمى والركض فوق الأرائك كله سينتهي، وأنني سأعود وأشتاق لتلك الأيام، فإنني أعمل جاهدة كي لا أندم حين لا ينفع الندم.. كلما تذكرت أن مستقبلهم نشكله الآن سويا بهدوء، ونرسم ألوانه كافة، فإني أمتلئ بالمخاوف والتساؤلات، لكني أقنع نفسي أننا نحاول أن نمسك بما استطعنا من حبال، من دراسات علم، وتجارب حية، وقدوات ومزيدا من جرعات الحب، وإن الله لن يضيع جهد مجتهد.
ويبقى القول، أننا بقدر ما نحبهم فإننا نلهج لهم بالدعاء في سجودنا، نهمس لهم أننا نحبهم لأنهم مهجة قلوبنا ولا يمكن لتلك المشاعر أن تتغير مهما كان ومهما صار..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.