شعار قسم مدونات

مفهوم الوطنية في معجم السلطة الفلسطينية

blogs - محمود عباس

عندما نتحدث عن المجتمع لابد أن ندرك أن هناك مجموعة من المؤسسات التي تعمل على تنظيم وخدمة وإصلاح العلاقات العامة ما بين أعضاء المجتمع من ناحية، وما بين المجتمع ومؤسسات الدولة من ناحية ثانية، ومن أجل فرض هيبة القانون والمساعدة على الضبط الاجتماعي من ناحية أخرى لتصبح العلاقة ما بين الدولة والمجتمع في مساقها الصحيح. ونعلم أن المؤسسة الأمنية هي أداة الضبط القانوني السليم في المجتمع شريطة أن تعمل وفقاً لتلبية حاجات المجتمع.

دخلت السلطة الفلسطينية إلى غزة وأريحا ضمن إطار أوسلو مقابل شروط صعبة ومعقدة لاسيما في الشق الأمني منها، كان أبرزها التزام السلطة بمنع أي عمل مقاوم موجه ضد "إسرائيل" و بذلك يكون السياسي الفلسطيني وضع المؤسسة الأمنية في موقف مُحرج أمام الجماهير الفلسطينية في مقدمتها التيارات الإسلامية التي اعتبرت ذلك تفريطا وخيانة، جابهتها منظمة التحرير "أن الاتفاق مرحلي تكتيكي" و ما هو إلا مناورة لفرض الأمر الواقع واختلاق "الدولة الفلسطينية". عمليا التزمت السلطة الفلسطينية بالاتفاق ومنعت قدر الإمكان العمليات وقامت باعتقال من يخطط لتنفيذ عمليات ضد العدو أمثال عماد وعادل عوض الله 1998 ومحمود طوالبة 2001 وخلية الجبهة الشعبية التي اغتالت الوزير عام 2002 والسيرة طويلة في هذا الصدد.

أضحى أفراد الأمن الفلسطيني في مواجهة أبناء شعبهم في تطور دراماتيكي لاتفاق أوسلو، جعل من يعمل في الأمن عنصرا منبوذا لدى شريحة كبيرة في المجتمع

في خضم ذلك كله عملت حماس على عدم الاصطدام مع السلطة في الواقع الجديد وقدومها لغزة، وسرعان ما قامت الأخيرة بإغلاق مؤسسات تابعة لحماس والعديد من حملات الاعتقالات بحق قيادات في الحركة، وقال النشار "بعد التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال قمنا بقتل اثنين من اليهود ودفنهم داخل أراضينا المحتلة عام 48، ولم يكشف عنهم إلا من خلال التحقيقات التي أجرتها السلطة مع المقاومين، وكان هدفنا مبادلتهم بأسرى داخل السجون، ولكن تم تسليمهم بعد الكشف عنهم بدون مقابل". إلى هنا تنتهي مرحلة الانهيار الأول.

وبعد فشل كامب ديفيد التقت شخصيات من حركة حماس مع عرفات تحت مسمى حزب الخلاص الوطني، لمناقشة فشل كامب ديفيد واقتحام شارون للمسجد الأقصى، وأبلغ أبو عمار قيادة حماس بموافقته على المقاومة والتحرك العسكري لهم رسميا ضد الاحتلال، وكان موقفه إيجابيا في ذلك وأفرج عن العديد من شباب حركة حماس المسجونين داخل سجون السلطة. بعد اغتيال عرفات واستشهد الشيخ أحمد يس أخذت انتفاضة الأقصى بالضمور إلى أن تم اجتثاثها ببرنامج عباس السياسي استناد إلى اتفاق أوسلو ونبذ أي عمل أو أي فكر يدعو للعمل المسلح باعتباره "عبثيا" آنذاك.

وخلال هذه الفترة حرص عباس على بناء سلطة أمنية متينة لها الحصة الأكبر من موازنة الحكومة بواقع مليار دولار شهريا "بتمويل من الكونغرس" لتعزيز وضع التنسيق الأمني بين الاحتلال وأمن الضفة (حيث شكلت هذه المرحلة صراحة أكبر بالقول والفعل في إظهار عقلية تبعية الأمن والشواهد كثيرة) ترأس هذه المرحلة سلام فياض ثم عمل على تطهير المؤسسة الأمنية من الذين تبقى في رؤوسهم "مياه قديمة" باسم التقشف وهو التوجه ذاته في أوسلو لكن بصورة مُكثفة "ومُكثفة جدا".

في الانهيار الأول كانت المؤسسة الأمنية في حرج أمام المعارضة وبعض القوى المستقلة، أما اليوم مع هذا التحول الأكثر صراحة أضحى أفراد الأمن الفلسطيني في مواجهة أبناء شعبهم في تطور دراماتيكي لاتفاق أوسلو، جعل من يعمل في الأمن عنصرا منبوذا لدى شريحة كبيرة في المجتمع وهنا تكمن خطورة هذه المرحلة بالسلوكيات التي يمارسها الأمن وردود الأفعال الشعبية المضادة التي تتطور إلى صدام ميداني مؤقت من جهة وحالة شحن وبغضاء بين المعارضة والاتباع في الجامعات ومواقع التواصل والمرافق العامة.

شكلت قضية باسل الأعرج ورفاقه عامل تعرية حقيقية بما لا يدع مجالا للشك لأكاذيب السلطة، لم تستوعب الأخيرة ما حدث! وما قمع المسيرات والدخول في مسابقة الاستفزازات إلا دليل على عدم نضوج المسؤولين وإدراكهم لخطورة ما يحدث، بهذا نتجاوز مرحلة الانهيار الثاني.

undefined

الإحباط السياسي المُبرَر للشارع العربي الذي اعتاد على الخذلان، خلق حالة تمجيد لمن هم أقل ضررا أو أقل انبطاحا ففي مصر يتحسرون على أيام مبارك وفي فلسطين يرجون عودة أيام عرفات وهكذا دواليك حتى أصبح التغيير مطلبا مرعبا للغاية، بحيث تبرمجت العقلية على قدوم ما هو أسوء، ولنا الحق في ذلك بحسب النتائج، وكل دول "طير السنونو" كما قال الشاعر على نفس المنوال.

هذه الحقيقة التي نواجهها اليوم أننا نتحسر على عهد مبارك ونحلم بأيام عرفات التي صنفها كثيرين بأنها تنازل وتفريط وسلام كاذب، وفي الانهيار الأخير والثالث هو مشهد دخول قوة للمستعربين إلى حرم جامعة بير زيت لاعتقال رئيس الكتلة الإسلامية عمر الكسواني على مرأى ومسمع أمن الجامعة ومناديب السلطة وعناصر مخابراتها، وما هو أدهى وأمر متابعتنا الحية المباشرة قبل أيام لعملية محاصرة واغتيال أحمد جرار، فكل الحروف والأوصاف لا تتسع لوصف عملية تستمر لساعات بالقرب من أكبر ثكنة عسكرية لأجهزة فتح، لقد أبدع دايتون في خلق "الموظف الفلسطيني الجديد"، دايتون هو ضابط أمريكي أشرف على بناء الأجهزة الأمنية عشية انتهاء الانتفاضة الثانية.

قال توفيق الطيراوي رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية في مقابلة صحفية، التنسيق الأمني هو أن يقول لنا الإسرائيليين هناك شخص يريد تنفيذ عملية نذهب ونعتقله لمنع العملية، ثم أردف القول "الأجهزة الأمنية الفلسطينية هي فعلا أجهزة وطنية"، مما يجعلنا نختم هذه التدوينة بالسؤال المشروع دوما، ما الذي يعنيه مفهوم "الوطنية" في معجم السلطة الفلسطينية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.