شعار قسم مدونات

المهدي المنتظر.. كيف تهرب "داعش" من الواقع؟

Blogs- داعش

تهرب داعش من الخلافة إلى الخرافة، فبعد أن خاب أملهم في أن يفتحوا روما ويعسكروا بباحة البيت الأبيض، تحت قيادة إمامهم الأعظم وخليفة دولتهم وإمبراطوريتهم الكبرى البغدادي، ها هم يمنون النفس بفعل ذلك تحت قيادة المهدي. فقد بدأ الترويج على قدم وساق لظهور المهدي قريبا، والدندنة حول أحاديث الملاحم والفتن، فيما يمكن أن نسميه هروبا من الواقع والتعلق بخيوط للأمل واهية.

 

حيث لجأت مجلة النبأ الناطقة باسم التنظيم، منذ ثمانية أسابيع، إلى نشر سلسلة حلقات أسبوعية، عن أحاديث الفتن وظهور المهدي. العدد الأخير من المجلة، تطرق في الحلقة الثامنة لهذه السلسلة، لجانب من هذه القضية، لرفع معنويات جنوده، وتثبيتهم. وقبل أزيد من شهر، أصدر مركز الحياة التابع للتنظيم، نشيدا مرئيا تحفيزيا تحريضيا، بعنوان: "يا كفار العالم"، كلمات النشيد وإن كانت موجهة لدول التحالف وشعوبها، تهديدا ووعيدا، إلا أنها موجهة أيضا لعناصر التنظيم وجنوده وأنصاره والمتعاطفين معه، بالعزف على أوتار ظهور المهدي ونزول المسيح، وأن أتباع التنظيم هم من سيكونون جنودا للمهدي المنتظر، وما عليهم إلا التشبث بما هم عليه، ونشره بين الناس.

 

لا أريد الخوض في مهدي السنة ومهدي الشيعة، ولا نسخ المهدي التاريخية المزورة والمتكررة، التي ظهرت منها عشرات النسخ على مدى قرون، ولا آلاف مرضى اضطراب الفصام، المرض النفسي الذي يدفع صاحبه للاعتقاد أنه هو مخلص البشرية. ما أريده في هذه الدراسة هو تسليط الضوء على خطاب "داعش" في هذه المرحلة، واعتماده أحاديث الفتن والملاحم، كنوع من إبقاء الأمل والمدد.

 

أحاديث الفتن والملاحم أي جديد؟
باستعمال داعش لورقة أحاديث الفتن والمهدي وهي تحتضر، تريد أن توهم الأتباع والجنود والأنصار، أن الخلافة الراشدة الثانية، تمت على أيديهم وانتهى أمرها، وأن المرحلة الثانية هي مرحلة خلافة المهدي

كثيرة هي الدعوات، التي اعتمدت على حديث أو جزئية أو عقيدة ضمن أحاديث الفتن، في بداية انطلاقها، إما لإضفاء المشروعية على حركتها ودعوتها، أو لاستقطاب الأنصار والأتباع، أو لبث الرعب في الخصوم والأعداء.. كدولة العباسيين في بدايتها، التي أقامت دعوتها على أحاديث الرايات السود، والدولة الموحدية أقامها زعيمها المهدي ابن تومرت على أحاديث المهدي.. ثم بعد أن تمكنت تلك الدول رمت بتلك الدعوات والأحاديث جانبا بعد أن استغلتها استغلالا، ثم انقضت تلك الدول وعلم الناس أنها ليست المعنية بتلك الأحاديث وتلك المعتقدات.

 

جديد "داعش" هو أنها تستعمل ورقة أحاديث الفتن والمهدي، ليس في بدايتها، بل في أفولها واندثارها، لكن أي فرق يشكل ذلك؟ صحيح أن داعش استعملت في بدايتها أحاديث ومعتقدات أخرى، هي أحاديث عودة الخلافة على منهاج النبوة، وأنها هي التي تمثلها، فاستقطبت من الشباب المسلم المتعطش لدولة إسلامية قوية مستقلة، الآلاف المؤلفة، ومعلوم أن ما يعرف في الفكر السياسي الإسلامي، بالخلافة الثانية، لا علاقة له بخلافة المهدي، فالخلافة الثانية كما في أدبيات الفكر السياسي السني، هي خلافة راشدة، على خطى الخلافة الراشدة الأولى، تبنى بأيدي المسلمين الذين يختارون حاكمها، فترجعهم لسابق عزهم وتوحدهم في دولة واحدة، وتستعيد ما ضاع من مقدسات. لكن خلافة المهدي هي إحدى المعجزات التي تقع آخر الزمان، تقع فجأة بدون مقدمات، حاكمها اختاره الله وانتخبه وقضي الأمر.

 

إن داعش باستعمالها لهذه الورقة وهي تحتضر، تريد أن توهم الأتباع والجنود والأنصار، أن الخلافة الراشدة الثانية، تمت على أيديهم وانتهى أمرها، وأن المرحلة الثانية هي مرحلة خلافة المهدي، وأن مالم يحققوه بقيادة البغدادي، سيحققوه قطعا بقيادة المهدي، فما عليهم إلا الصبر والثبات والقتال بضراوة وشراسة وتوحش، واستقطاب المزيد من الأتباع والمتطوعين، فهو مشروع واحد، استكملت مرحلته الأولى، وسيتم باستكمال مرحلته الثانية.

 

كما أن الحديث عن الفوضى والقلاقل والاضطرابات الواقعة في الشام في أيامنا هذه، على أنها هي المقصودة في تلك الأحاديث، يجعل التنظيم يقدم نفسه على أنه هو ممثل الحق في هذه المعركة، متحكما أدبيا ومعنويا، في نهايات العالم، لأنه مطلع على تلك السيناريوهات وتفاصيلها، وبالتالي مسيطرا على نفسيات وعواطف ضحايا جدد من الشباب المسلم، الذي يريد أن تكون نهايته على تلك الأراضي المقدسة والمباركة، والذي يريد أن يكون له دور وبصمة في صناعة نهاية للعالم.

 undefined

 

مخاطر الهوس بأحاديث آخر الزمان

عاش المسلمون ملاحم وفتنا ولم يحاولوا إسقاط تلك الأحاديث على واقعهم، فقد تقاتل الصحابة قتالا شديدا في تلك الأراضي بين الشام والعراق، ولم يقل أحد أن هذه الفتن دليل على قرب المهدي أو قرب قيام الساعة، رغم أن نصوصا كثيرة كانوا يعرفونها عن قرب الساعة (بعثت أنا والساعة كهاتين) (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر)، وحين اقتتل علي ومعاوية، ومعاوية حينها بالشام، لم يستغل هو وأصحابه، الأحاديث التي تتحدث عن فضائل الشام، من قبيل: "الطائفة الظاهرة التي على الحق والتي ستكون بالشام"، وحديث أن "الإيمان حين تقع الفتن، يكون بالشام"، وغيرها من أحاديث الفتن والملاحم وفضائل الشام. كان هذا في وقت كان المسلمون أقرب عهد بالإسلام وبتفسيراته ومقاصده.

 

لكن حدث في عصور الانحطاط والانهزام، أن فهم بعض العلماء، واقعهم على ضوء تلك الأحاديث، ففسروا حروب التتار والصليبيين وحملاتهم، على أنها الفتن والملاحم، التي تكون آخر الزمان وقرب قيام الساعة، ومع ذلك لم ينته الزمان ولم تقم الساعة، ومرت قرون كثيرة، وانتصر المسلمون بعدها، ثم انهزموا، ثم انتصروا ثم انهزموا.. ولاتزال الحياة مستمرة.

 

نجاح داعش في الاستئثار بأحاديث الفتن وتقديمها للشباب بعد تطويعها ولي عنقها وتفسيرها، لتخدم مشروع التنظيم، سيجعلنا أمام مرحلة أخرى ونسخة داعشية أشد جهلا وعنفا وتطرفا

واستغلت بعض الجماعات والدعوات، أحاديث الرايات السود والخلافة الراشدة وأحاديث المهدي، وأسقطتها على مشروعها وقادتها، وأوهمت أتباعها أنها هي المقصودة بتلك البشارات والنبوءات، حدث ذلك مع جهيمان العتيبي، الذي كان أتباعه يعتقدون أن الملائكة ستظللهم بأجنحتها، وأن النصر قاب قوسين، ثم استفاق المغفلون، على رصاص الجنود الفرنسيين يبيدونهم مثل الحشرات، ثم تكرر الغباء مع عدد من التنظيمات التي تلت حركة جهيمان، فاستعملت جماعة أحاديث الرايات السود الخارجة من خراسان، واستعملت أخرى احاديث القحطاني الذي سيمهد للمهدي، واستعملت ثالثة أحاديث مدد اليمن وجيش عدن أبين..

 
كلما قامت حركة أو جماعة، حاولت العزف على الأوتار الحساسة، لدى الأتباع المغسولة أدمغتهم، بأحاديث مماثلة، قبل أن يستفيقوا على واقع لا علاقة له بما يعتقدون، لكنهم للأسف يستمرون في إجراء تلك الإسقاطات.

 

لقد تعامل المسلمون في ما مضى عموما، مع تلك الأحاديث، على أنها من أخبار النبي التي ينبغي تصديقها، ولم يتجاوزوا ذلك، لم يفرعوا عليها أحكاما أو فقها، لم يهتموا بها هذا الاهتمام المرضي، الذي يجعل المسلم ينسحب من الحياة وينتظر النهاية. يجعل تلك الأحاديث نبراس حياته، يفسر كل حركة أو سكون على ضوئها، يتعامل مع الآخر على ضوئها، يبرمج حياته على ضوئها، ولا يكون له أي دور في الإنتاج أو الإصلاح، لأنه ينتظر نهاية العالم، أو يساهم في إنهائه، فيقتل ويخرب ويفجر باسمها.

 

إن هذا الاستعمال المكثف من داعش لهذه الأحاديث، هو وسيلة دعاية واستقطاب وتجنيد جديدة، غرضها إبقاء جذوة الحماس مشتعلة لدى الأتباع، فهي آخر أوراق هذا التنظيم إذا تم تكثيف المواضيع التي تفضح أساليبه وتسحب البساط من تحت أرجله، بوضع تلك الأحاديث في سياقاتها والتعامل معها بمقاصدها وحجمها الحقيقي وتوعية الناس بهذا التراث وفتح نقاش بخصوصه، ماعدا ذلك فإن نجاح داعش في الاستئثار بهذه الأحاديث والاستحواذ عليها، وتقديمها للشباب بعد تطويعها ولي عنقها وتفسيرها، لتخدم مشروع التنظيم، سيجعلنا أمام مرحلة أخرى ونسخة داعشية أخرى، أشد حمقا وجهلا وغباء وعنفا وتطرفا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.