شعار قسم مدونات

التمكين الرقمي والديمقراطية الجماهيرية

مدونات -وسائل التواصل

السعي إلى تحقيق الذات وزيادة النفوذ هو باختصار المعنى الذي ترمي إليه كلمة تمكين. ولأن العالم يخطو بشكل متسارع نحو آفاق مجهولة فإن التمكين هو عملية بناء متواصلة للإنسان يكتسب أهمية خاصة. يلتفت الكاتب لوتشياتو فلوريدي في كتابه الشهير (الثورة الرابعة) إلى عملية التمكين في عصر الإنترنت ويمنحها مفهومين اثنتين يتعلقان أصلا بالنطاق الذي قد تصل إليه عملية التمكين وبالمجالات التي تشتملها هذه العملية وذلك في إطار تسارع تكنولوجيا المعلومات التي أحدثت نقلة نوعية سواء على مستوى المفاهيم أو مستوى الوسائل والأدوات.

 

يتعلق المفهوم الأول للتمكين (وهو ما سأتناوله في هذا المقال فقط) بتكافؤ الفرص، أي بحق الجميع في المشاركة السياسية والمساهمة في صناعة القرار. فتكنولوجيا المعلومات والثورة الهائلة التي أحدثتها في عالم الاتصالات ونقل المعلومات وفرت المنصة الأشمل على مستوى العالم لتعزيز قدرة الأفراد ككيانات سياسية عاقلة على المشاركة والتأثير في الحياة العامة، على المستويين المحلي والعالمي معا. ويحدث هذا من خلال إعادة بعث الديمقراطية المباشرة أو ما يمكن أن يطلق عليه بالديمقراطية الجماهيرية على شاكلة تلك التي كانت سائدة في مدينة أثينا اليونانية في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد؛ عندما كان الرجال المؤهلون يمارس المشاركة السياسية المباشرة في صناعة القرار وإدارة المؤسسات السياسية للحكم، هذا مع مراعاة اختلاف العصر بطبيعة الحال.

  

ولكن مع مرور الزمن واتساع الجغرافيا وزيادة عدد سكان المدن أصبحت الديمقراطية الجماهيرية مستعصية على التنفيذ ولذلك تم استحداث نوع آخر من الممارسة السياسية عرف بالديمقراطية التمثيلية، والتي تتيح للشعب اختيار ممثلين ينوبون عنه في عملية سن القوانين واتخاذ القرارات. لكن حب السلطة والاستئثار لدى البشر ساهم في تدهور هذه العملية، فقد اتحدت مع مرور الوقت هذه النخب السياسية الحاكمة المنتخبة مع الطبقة البروجوازية ومن ثم مع الطبقة الرأسمالية لتشكيل تكتل احتكاري للسلطة عززته وسائل الإعلام التقليدية التي خضعت بدورها لرأس المال ولمصالح النخب الحاكمة. وكانت النتيجة أن تدهورت قدرة الشعب على المشاركة السياسية، وأصبحت فرصته في صناعة القرارات ضئيلة، الأمر الذي عزز من النزعات الثورية لدى قطاعات واسعة من الشعب تلك التي شعرت بالمظلومية، وبضرورة الانتفاض على الوضع الراهن الذي باتت تشكل فيه الديمقراطية أداة للاستغلال وليس للحكم.

 

قد نجد ملاذنا في الديمقراطية الجماهيرية المدعومة رقميا عبر الإنترنت قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة تفضي إلى مرحلة جديدة من الفوضى على المستوى الدولي ونشوب المزيد من الحروب والنزاعات

أما اليوم فإننا نشهد مرحلة من العودة المتدرجة إلى الديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية الجماهيرية من خلال المنصات التفاعلية التي توفرها تكنولوجيا المعلومات، فشبكة الإنترنت تساهم في عودة المشاركة السياسية إلى نطاقها الطبيعي حيث تتزايد احتمالات أن يمارس غالبية أفراد الشعب حقهم في صناعة القرار وإدارة مؤسسات الحكم من خلال اخضاعها للشفافية والمحاسبة.

 

وبالرغم من أن هذه الاتجاه يبدو واعداً إلا أننا مازلنا نشهد بداياته الأولى حيث تعترض طريقه الكثير من العقبات كما تستلزمه جملة من الشروط الواجب توفرها على رأسها الأمية الرقمية الواجب التخلص منها أو تقليلها إلى حدودها الدنيا لكي نشهد إمكانية حدوث مشاركة شعبية واسعة للحملات الديمقراطية التي تتخذ من شبكة الإنترنت فضاء عملياً لها. فبالرغم من النجاحات الكبيرة ومعدلات الوصول الهائلة التي حققتها شبكة الإنترنت على صعيد البحوث العلمية والتعاملات التجارية والترفيه إلا أن مستوياتها في المشاركة السياسية الرقمية للأفراد مازالت متدنية. ولذلك لا تقتصر عملية تعزيز الديمقراطية الرقمية على توفر الأداة ألا وهي شبكة الإنترنت هنا بل على التوعية بأهمية المشاركة السياسية بشكل عام أي بإعادة الثقة بالمؤسسات السيادية لصناعة القرار من ناحية، وبأهمية شبكة الإنترنت كأداة محورية في عملية تمكين الفرد من المشاركة السياسية وصناعة القرار من ناحية أخرى.

  

ربما يكون أوضح مثال على هذا النوع من المشاركة السياسية ما حدث في أيسلندا بعد الأزمة المالية: فقد اقترحت الحكومة شكلاً جديداً في إدارة المشاركة السياسية عبر إعادة كتابة الدستور ولكن هذه المرة من خلال المشاركة الجماهرية الواسعة وليس من خلال مجموعة من المختصين المحسوبين على الأحزاب السياسية والنخب الحاكمة. كانت مشاركة الجمهور مباشرة من خلال الإدلاء باقتراحاتهم على التعديلات الدستورية عبر موقع إلكتروني خاص دعي بالمجلس الدستوري The Website of the Constitutional Council. ولقد بات تشكل هذه التجربة في حد ذاتها بنظر الكثير من المختصين مثل هيلين لاندمور (Helene Landemore) تجربة من شأنها أن تتحدى التجارب التقليدية في صناعة الدساتير وطريقة الاحتكام إليها في المستقبل.

 

ما أود قوله أن العالم الآن يشهد أزمة حقيقية في الديمقراطية التمثيلية ظهرت جليا على سبيل المثال لا الحصر في عملية التصويت المخادع لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي Brexit أو فوز الرئيس دونالد ترمب بالانتخابات الأمريكية بالرغم من حصوله على عدد أقل من الأصوات، كما أن الشعوب باتت تعبر عن فقدان ثقتها بالحكومات و صناع القرار، لذلك فإننا قد نجد ملاذا في الديمقراطية الجماهيرية المدعومة رقميا قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة تفضي إلى مرحلة جديدة من الفوضى على المستوى الدولي ونشوب المزيد من الحروب والنزاعات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.