شعار قسم مدونات

كيف تذبح دولة.. التطبيع مع المحتل!

مدونات - التطبيع مع المحتل

تختلف أنواع الاحتلال على مر العصور، فهناك ما هو احتلال مباشر عبر قيام دولة ما بغزو أراضي دولة أخرى عسكرياً والسيطرة على كامل أراضيها أو جزء منها وإدارة ما تسيطر عليه إما بطريق مباشر أو عن طريق عملاء لها من نفس البلد الذي تم احتلاله لكنهم يدينون بالولاء والطاعة والإخلاص للمحتل، وهو من أحد أشكال الاستعمار وأكثرها وضوحاً وقدماً وأكثرها إثارةً لكل معاني الكراهية والحقد للشعوب المستعمرة، وهناك أنواع أخرى من الاحتلال منها ما هو سياسي واقتصادي وثقافي وما شابه وهو النمط السائد والغالب حالياً. 

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتشار الفكر التحرري وانحسار الموجة الاستعمارية المباشرة وحصول الدول المحتلة على استقلالها ورحيل القوات العسكرية عنها، تركت تلك القوى الاستعمارية ورائها في غالبية الدول شبكة منتفعين وموالين لها في مختلف المؤسسات لتستمر مصالحها وتحصل على المكاسب بشتى أنواعها اقتصادية وسياسية.

 
في المنطقة العربية على سبيل المثال يمكننا رؤية هذا واضحاً، بنظرة فاحصة نستطيع معرفة حجم الصراع والتنافس الدائر لبسط النفوذ على المنطقة والاستحواذ على ثرواتها الطبيعية وتقاسمها بين الدول الكبرى، واتفاقها الضمني في ما بينها على نصيب كلاً منها، وإن كان كل هذا لا يتم بصورة فجة واضحة تجنباً لإثارة غضب وحنق شعوب المنطقة، لكن لا تخطئه العين المتابعة لما يجري، فنرى هذا التقاسم لمناطق النفوذ يتم عبر تحالفات سياسية واقتصادية وتواجد ثقافي وعسكري لكن في صورة الحليف والصديق وليس المحتل.

 

مرحلة هدم مؤسسات الدولة وتفريغها من مضمونها وجعل المواطن يفقد الثقة فيها سيؤدي مستقبلاً لانهيارها وعجزها عن أداء واجباتها لو تم تغيير نظام الحكم ورحيله

وما تزال المشكلة القديمة الجديدة وهي كيفية تطويع الشعوب لجعلها تتقبل فكرة التعايش مع المحتل ووكيله المحلي، ويتم هذا عبر مراحل عدة أشرت إليها في عدة مقالات سابقة تحمل نفس العنوان الرئيسي" كيف تذبح دولة" مع عنوان فرعي لتوضيح كل مرحلة من تلك المراحل بالتفصيل. وهنا سنقوم بتوضيح مرحلة التطبيع مع المحتل وتحوله من محتل مباشر في السابق إلى حليف لكن يدين له الحاكم المحلي بالولاء ويقوم بقيادة الدولة في الاتجاه الذي يخدم الحليف ويحقق مصالحه السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية على حساب الشعب صاحب البلد الحقيقي.

 

لكن هذا التطبيع يمر بمراحل عدة يتم تنفيذها على فترات زمنية محددة بخطوات مدروسة ومحسوبة، أولها قلب المفاهيم الثابتة وتطويعها لخدمة النظام ويتم خلالها تفريغ مفاهيم وثوابت المجتمع الدينية والثقافية والسيادة الوطنية والأمن القومي والانتماء للوطن والحقوق والحريات من مضمونها الحقيقي واستبدالها بمفاهيم جديدة تساعد النظام على الاستمرار وتجدونها هنا بالتفصيل في مقال (كيف تذبح دولة.. نظرية "بيع يا وديع")، ثم المرحلة والخطوة الأهم والأخطر وهي مرحلة تزييف الوعي لخلق مناخ يلائم النظام الحاكم ويمنحه السيطرة على مختلف فئات الشعب بحيث يتم مخاطبة كل فئة عن طريق النخبة المعبرة عنها وبالطريقة المناسبة لها لاستقطابها والسيطرة عليها وتوجيهها وتجدونها بالتفصيل هنا في مقال "كيف تذبح دولة.. تزييف الوعي".

 

ثم هناك مرحلة هدم مؤسسات الدولة وتفريغها من مضمونها وجعل المواطن يفقد الثقة فيها وهو ما سيؤدي مستقبلاً لانهيارها وعجزها عن أداء واجباتها لو تم تغيير نظام الحكم ورحيله ليحل محله نظام يعبر عن رغبة الشعب وينتمي إليه، ويتزامن مع هذا بث نار التفرقة والخصومة والصراع الطبقي والمجتمعي بين مختلف طوائف الشعب وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان اتفاقها وتلاقي مصالحها، وستجدون هنا تفاصيل أكثر في مقال "حكم العسكر.. كيف تذبح دولة؟". 

 undefined

 

بعد تنفيذ هذه المراحل وبالتزامن معها يتم تدريجياً تهيئة المجتمع لتقبل فكرة التطبيع مع المحتل وقبول التعايش معه بل التيقن أنه من المصحلة العامة للدولة ولمواطنيها إقامة علاقات وثيقة معه وفي كافة المجالات وعلى كافة المستويات. وللوصول لهذه القناعات تقوم النخبة الحاكمة والتي غالباً ما تكون "بريتوريانية الطابع" عسكرية الهيكل والتنظيم بالعمل على تخريج جيل كامل من الطلبة المتشبعين بأيديولوجيا المحتل المقتنعين بالحاجة إليه للتقدم عن طريق تثبيت وترويج فكرة أن الدولة متخلفة وتحتاج لإعادة البناء من جديد على أسس مختلفة للحاق بركب الدول المتقدمة، وأن الأيديولوجيات القديمة الثابتة والمتينة في المجتمع كالدين والعادات والتقاليد والثقافة المحلية ومعاداة المحتل هي أكبر عوائق هذا التقدم، لذا وجب علينا تحديثها وتغيير مضمونها والتخلي عن المتعارض منها ليتوافق مع متطلبات العصر الحديث والمتمدن، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه نزع الروح المعنوية للشعب ودفعه للإحساس بالعجز وأن لا قبل له بالخروج من تحت هيمنة وسيطرة المحتل إلا باتباع نفس أساليبه ومنهجيته والتعاون معه.

 

حين تظهر فئات من الشعب المستهدف معارضة لهذا التوجه العام للنظام الحاكم "التطبيع مع المحتل"، هنا يلجأ النظام لاستخدام القوة المفرطة في إسكات المعارضين وقمعهم بأبشع الطرق والوسائل

بعد نزع الروح المعنوية للمجتمع تقوم النخبة الحاكمة فعلياً بالدفع في اتجاه زعزعة الاستقرار واختلاق المشاكل وتغذية صراعات القوة والتي من أهم نتائجها لجوء العامة منزوعو الروح المعنوية لاختيار السياسيين والنخب أصحاب الكاريزما والحضور الجماهيري خاصةً هؤلاء الذين يطلقون وعوداً براقة بالاستقرار والنمو الاقتصادي وحل مشاكل الدولة بسرعة وسهولة، وسيؤدي فشل هذه الحلول إلى تفاقم المشاكل والأزمات بشكل أكبر وأسرع وتيرةً عن ذي قبل، وهو ما سيؤدي بدوره لقيام الدولة متمثلة في النظام والذي لا بد أن يكون دكتاتورياً قمعياً تغلب عليه صفة "العسكرة" في السيطرة على كافة موارد الدولة الاقتصادية بحجة حمايتها مما يؤدي لزيادة قوة النظام الحاكم والمزيد من احتقان المواطنين تجاهه.

 

تلك السياسات والقرارات ستؤدي إلى صراعات داخلية تتزايد باستمرار نظراً لأنها بالتأكيد ستجعل المجتمع ينقسم إلى طبقات متفاوتة ومتمايزة ونتيجة لهذا ستنكفئ الدولة على نفسها وتنعزل عن جيرانها ومحيطها الإقليمي وحلفائها التقليديين "الدول العربية والإسلامية"، ولكي يتم السيطرة على تلك الصراعات والاعتراضات يجب أن يكون هناك عدو واضح يتسم بالشراسة والدموية ليلقي عليه النظام باللائمة وفي نفس يتم استخدامه لبث الخوف والرعب في صفوف الشعب ليتقبل القرارات السياسية والاقتصادية وصعوبات المعيشة وارتفاع الأسعار وتجدون التفاصيل هنا في مقال "كيف تذبح دولة.. صناعة الخوف والإرهاب المفيد".

 

بالطبع ستكون فئات من الشعب المستهدف معارضة لهذا التوجه العام للنظام الحاكم "التطبيع مع المحتل"، وهنا يلجأ النظام لاستخدام القوة المفرطة في إسكات المعارضين وقمعهم بأبشع الطرق والوسائل وعن طريق مؤسسات الدولة المفترض بها حماية المواطن (الجيش والشرطة والقضاء) ويصبح من المعتاد رؤية الجنود يتجولون في كافة أنحاء الدولة ويلقون القبض على من يحلو لهم بدون رادع والقتل والتصفية في ظل حماية سياسية وإعلامية من أذرع النظام، ويتم التخلص تدريجياً من "المغفلين المفيدين" وهم من مهدوا الطريق منذ البداية لتغلغل النظام الموالي للمحتل ويتم الزج بهم في السجون والمعتقلات وإعدام البعض منهم بعد محاكمات صورية تفتقد لأبسط متطلبات العدالة بعد انتفاء الحاجة إليهم في المرحلة الجديدة التي ستكون كل الكوادر والنخب اللازمة لها قد تم تجهيزها مسبقاً ويتم الدفع بها للواجهة تدريجياً للحلول محل النخب السابقة، والتي تم استخدامها ولفظها الشعب ولم يعد يتقبلها بعد أن كانت في البداية تراها معبرة عنها ثم انقلبت لموالاة النظام الذي لا ولن يثق فيها بدوره لأنها كانت في صفوف الشعب ولو جزئياً وظاهرياً.

 

ثم يقوم النظام بالسيطرة التامة على الإعلام وعدم السماح قطعياً بأي انتقاد للنظام ورموزه والقائمين عليه ويصبح رأس النظام وأذرعه من المقدسات المحرم الاقتراب منها أو الاعتراض والتعليق على تصرفاتها وأفعالها. وعند الوصول لتلك النقطة وتنفيذ تلك الخطوات يكون قد تم بالفعل الجزء الأكبر من خطة التخريب الأيديولوجي والعقائدي للشعب وتطويعه لقبول تحالف النظام وموالاته مع المحتل والذي سيكون قد انتقل بالفعل من خانة العدو إلى خانة الحليف والصديق، وسيقوم بدوره بمد يد العون والمساعدة بشتى الطرق والوسائل ولكن بشروط مجحفة تجعل النظام رهينة لرغبة المحتل وفي نفس الوقت تجعل الشعب يستسلم للتوجه الجديد بعد أن تم تحويل معظمه تدريجياً لقبول هذا التوجه الذي كان مرفوضاً وبصفة قاطعة من قبل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان