من بعدنا يبقى التراب والعفن نحن الوطن من بعدنا تبقى الدواب والدمن نحن الوطن إن لم يكن بنا كريما آمنا ولم يكن محترما ولم يكن حرّا فلا عشنا ولا عاش الوطن.
خلف حروفك لو تدري تبكي السطور، لا زالت في مواسم الذعر ترتجف، لا زالت بالشوق تعترف، ولا زالت إلى نثرك تختلف! كتبتَ لي ذات صمود أنّك تكتب على أشواط، تكتب وحولك الموت يقطّع حروفك إربا، إربا لتحلّق مفتوحة الجراح على جناحي روحك سربا، سربا وتتوزع في داخلي مغلقة، فأنا الورقة!
صوب حروفك لو تعلم يتّجه الشتاء، يعصر قميص غيمة الأمل عليها لتمطر، فهل بقدوم ذاك الربيع ستزهر؟ هل ستتخذ السطورَ فراشا، هل ستغطّ في حبّها العميق، أم أنّها بحلول الصحو تتلاشى؟! بين ثنايا حروفك يقف الأمان، يسبل زرعه، ينشر بين الحقول قمحه، تجري في سواقيه روحك التي افتقدت الاطمئنان، ومع ذلك ما فتئت تصدّره، بالله عليك أ لم يقولوا إنّ فاقد الشيء لا يعطيه؟! فكيف يهدأ لمرآك بالي إذا ما رسا لدى قدميك حالي؟! في حضن حروفك يغفو الأمل، وتلك الدروس التي لا تحتمَل تكتمِل، فلتداوني بحروفك ولتزمّلني ولتدثّرني بروحك. إنّي لا زلت على قيدك!
علّمني بربّك كيف يسرقون هناك الطفل من حضن أمّه خلسة، كيف تغطّي أشجار السرو براعمها بأوراقها كي لا يطالها القصف، كيف تتغلّف بذور الجوز بأمهاتها حين ترتجف
أخاف وأنا أنصت لذلك الصوت الفيروزي الذي وحّد شوارعك يناديني "سنرجع يوما إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى، سنرجع مهما يمرّ الزمان وتنأى المسافات ما بيننا" أخاف أن تطول المسافات فعلا بيننا وألّا نعود، أخاف أن تطول دندنات وجع العود، تلك التي لا ينضب دمعها. أخاف ألّا نعود فهناك فعلا "تلال تنام وتصحو على عهدنا"، نحنّ لها. هناك هدهدنا ذكرياتنا، هناك علّقنا حكاياتنا، هنالك أشعلنا النور فوق إشارات السرور وبريق الأمل.
إنّني كلّما مررت بمنعطف البريق أضعت الطريق، فيعود صوت فيروز يشتّتني ويغنّي حروفك التي ختمت بها البريد يخبرني كما العندليب أن "البلابل لمّا تزل هناك تعيش بأشعارنا" في موطننا الأول. أفكّر قليلا أن ماذا لو ما احترقت أعشاش السنونو؟ وبقت تغرّد فوق قشناّ وقرميدنا؟ أن ماذا لو ما خلف دقّات عيوننا وشجون أصواتنا البريد؟ أن ماذا لو بقينا نكتب على أخشاب السرو العطرية ما نريد، أسامينا، أغانينا، أمانينا، أحلامنا وأوهامنا وجنوننا وأعمارنا، أن ماذا لو مكثنا في عالمنا الأول ولم نكبر ولم نتحوّل وبقينا نجري مع الأوراق ونبحر معا على متن جدول، أن ماذا لو لم نغادر دمى صوفية وجلسنا نمشّط رأسها المجدُول أو ننتف ما تبقّى من شعراتها، أن ماذا لو لم نغادر سيارة صغيرة نحرّك بأطراف أصابعنا الرقيقة عجلاتها، أن ماذا لو لم نغادر حبلا طويلا أمتن من عضلاتنا نلفّه حول خصور الأشجار الكتومة، نتدلّى فيه كجفنات عنب دوما!
آه يا دوما! تنهّد صوت آخر.. أخبرتني أنهم يضربون الحياة بالقذائف والصواريخ والأسلحة والطائرات. أخبرتني أنهم يمزّقون ثوبها الأخضر بالأمراض والمجاعات، وكتبت لي أنهم مهما ضربوها ومهما مزّقوها فالنصر حليف الحياة. كتبت لي تذكّرني في السطر الأخير بقول الرّافعي "قضت الحياة أن يكون النصر لمن يحتمل الضربات لا لمن يضربها"، فعلّمني بربّك كيف تحتملون هناك الضربات وكيف يتحوّل الأطفال فجأة أبطالا وكيف تقاوم الأمهات، وكيف ينازلن سيف الآهات وكيف يفكّكن لغة الأموات ويضمّدن آذان الفراشات.
علّمني بربّك كيف يسرقون هناك الطفل من حضن أمّه خلسة، كيف تغطّي أشجار السرو براعمها بأوراقها كي لا يطالها القصف، كيف تتغلّف بذور الجوز بأمهاتها حين ترتجف، وكيف تطير وحيدة مع اشتداد العصف. وكيف ينثرها الخريف بذورا في التراب وكيف يغطيها المطر وكيف يكسوها الأخضر وكيف تزهر وكيف تتسلق ظهر الحياة الجديدة حين يستجيب القدر!. أخبرتني أنهم يكسرون الإنسان هناك، يكسرونه بالأسلحة والدبابات، وأخبرتني أنّها في الحقيقة مجرّد مبراة، فالإنسان كلما بري كلما كُتِب في سجلّ التاريخ بخطّ أوضح!
تنهّد صوت عميق! هنا أيضا في عالمي يضربون الحياة بعصيّهم ويكسرون الإنسان بآلاتهم، هنا حيث أنا، الإنسان طبق مشوي، يسلخ جلده ويحرّق جسده ويذبّح بسكّين بوذيّ، الإنسان هنا كائن وهميّ لا يكون إن لم يكن بوذيّا، الإنسان هنا لم يسلم من أيّ أذيّة! الإنسان هنا لا يكون إن كان مسلما بورميّا! وهكذا نباد مثلكم في الغوطة غربيّة وشرقيّة وسائر أرض الشآم.
لأنّ الأخضر لون الحياة هو لا يليق بنا، فنحن المصابون بالموت ونحن المبتلون بعمى الألوان. الأخضر لا يليق بنا، الأحمر يليق بنا فهو لون الرفض
هذه أنا.. في مقهى أوراقي عادة ما تلتقي الشعوب، في مقهى أوراقي الشعوب لا تذوب. كنت أخالها ستتعارف لكنها تعرف بعضها البعض منذ زمن، هنا يجتمع المظلومون ليملوا عليّ حكاياتهم، ليسردوا الألم والحزن والمحن. في مقهى أوراقي عادة ما يجلس الإنسان ليبكي وأحيانا يلتفّ حول قلبه ليلملم شظاياه وينشّف شلالات مآقيه العميقة ويخصّب آماله التي أردوْها عقيمة! لكن بلا جدوى، الحرب تلثم كل ركن منه عنوة.
في مقهى أوراقي الضجيج، في مقهى أوراقي العجيج، في مقهى أوراقي الأحزان والدموع والدماء والأشلاء، هو مقهى أبيض الأرضية أدقّ مساحاته بمساميري السوداء. هو مقهى يتحول بحلولهم إلى رماد يجوب ما لذّ وطاب له من ربوع، أضيّفهم بالحروف تلكم التي لا تغني ولا تسمن من جوع! أجل، أضيّفهم بالحروف تلكم التي تتأثر كالنبت بالظروف.
هنا.. أرض خضراء فاقع لونها تسرّ الناظرين لم تعد تسرّ أيّ ناظر. هنا الشام، هنا الغوطة بشرقها وغربها، هنا بورما، هنا فلسطين، هنا العراق، هنا اليمن، هنا الصومال، هنا الإنسان مقطوع الأطراف يسلّم على الحياة بدمعاته، يضمّ نفسه بنفسه، وهنا ملخّصات رديئة تدوّن وجعها بمعاناته. هنا الأرض الخضراء حين تجهض خضابها الأخضر ويكسوها فستان الدخان الأغبر وتغادر طيورها أعشاشها الأولى لتحطّ في السطور، هنا هم وحولهم لا زلت كملاك لا يفقه من الدنيا سوى اسمه بريشتي أدور.
ولأنّ الأخضر لون الحياة هو لا يليق بنا، فنحن المصابون بالموت ونحن المبتلون بعمى الألوان. الأخضر لا يليق بنا، الأحمر يليق بنا فهو لون الرفض، الرمادي يليق بنا فهو لون الحداد ولون الحياد وإن بدا في معظم الأحيان متواطئا مع الأسود ومتدحرجا نحو الليل، ففي ألوان الليل لحن الموت الذي لا يجاريه لحن، هكذا هي سنّة الألوان وهكذا نحن!
على الجرح ها نحن مجدّدا نفترق، إنّهم بدمائهم يتطهّرون وبها نحن الآن نحترق. فماذا بعد؟ يئس الأمل منكم. لا تنقذوا الغوطة لا تنقذوا بورما وأخواتهما، الله لهم، أنقذوا أنفسكم فالأخضر لا يليق بكم!