في يوم من شهر يناير سنة 1936 م ولد العلامة السيد إسماعيل بولاية كرنادك، الهند نجيبا للوالدين الكريمين وكان والده عبقريا قلما نجد مثله في التاريخ حيث كان مجددا روحيا وصوفيا مثاليا برع في مجال الطب اليوناني وآيورويدا، نشأ وترعرع الكاتب في كفالة الخال بعد وفاة أمه الحنون، وقد تمدرس وتلقى على علماء الهند من أبرزهم شمس العلماء والسيد عبد الرحمن البخاري ثم ركب على جناحيه للدراسة العليا الى جامعة "دار العلوم" الإسلامية ديوبند وبلغ الأطورين في العلوم واللغة الأردية وبعد أن تم تخريجه منها انضم إلى موكب الدعوة وكرس حياته لنشر أسرار العلوم، لعل السيد الفانوري أول من قام بمنهج التعليم يجمع بين العلوم القديم النافع والجديد الصالح وأسس بهذا الصدد "جامعة الزهراء" في عام 1973 مستهدفا على إنتاج العلماء البارزين كي يأخذوا زمام الأمة ويحملوا أعباء المنكوبين على مستوى العالم.
كتب السيد الفانوري حازت مكانة مرموقة عالية عند العلماء الجهابذة والطلاب من العرب والعجم لأنها مكنت من أراضي خصبة تنبت فيها بذور اللغة العربية |
جزيرة العرب وولاية كيرالا بينهما اختلاط من قديم الزمن خلف بعض الآثار في اللغة والأدب من طريق التبادل التجاري ولكن هذا الاختلاط أصبح بعد أن دخل فيها الإسلام امتزاجا شديدا تداخلت به اللغات والأفكار والعقائد حتى صارت الولاية موردا فياضا من موارد الأدب ولم يكن بد من تأثر الأدب العربي بالآداب الأعجمية فتسللت اللغة العربية إلى عروق الهند وأجسامها بطريق التجار العرب البحري.
ولكن بعد ما انتشر الإسلام في كافة أرجاء الهند أصبح هذا التواصل منظما بشكل أفضل لأن خدام الإسلام كانوا في حاجة ماسة الى تجربة التراث العربي وتعريفها على الهنود، فقد جمع السيد إسماعيل البخاري جواهر اللغة العربية وزخارفها مما ساعده على إثراء المكتبة العربية بمؤلفات قيمة، وكان يحب اللغة العربية حبا جما إلى ان صارت حياته العلمية مبنية على الثقافة العربية الإسلامية في كل ربوعها وإن سيرة حياته خير شاهد على هذه الحقيقة لأن القارء لم يزل يخطر بباله أنه كاتب عربي مبين وليس من أعجمي أبدا وذلك لدقة عباراتها الأنيقة وتدفق ألفاظها الرشيقة.
يمتلك السيد الفانوري أسلوبا رائعا سهلا فليس فيه تكلف ولا زخرف ولا غلو إلا أنه يكتب كتابا بفصاحة اللغة العربية وبلاغتها، فمن الواضح كالشمس في رابعة النهار أن كتبه حازت مكانة مرموقة عالية عند العلماء الجهابذة والطلاب من العرب والعجم لأنها مكنت من أراضي خصبة تنبت فيها بذور اللغة العربية حتى تألفت المكتبات العالمية من أنواع كتبه القيمة في مختلف العلوم والفنون، في الآونة الأخيرة قد أدرج بعض منها في المناهج الدراسية في بعض الكليات والجامعات الإسلامية، وليس في مقدور هذا القلم العاجز أن يصف ما للسيد الفانوري من الأثر في الأدب العربي ويحسبنا أن نقول إنه تميز من أنداده بغزارة العلم وروعة الأدب، إنه تبحر في علم التفسير وشارك في سائر الفنون وكتب فيها كتابة محقق ضليع.
ما أروع ما اختاره العلامة طريقا لشرح آيات الله عز وجل ويعتمد عليه عند شروح الكلمات الربانية في تفسيره "على هامش التفاسير تعليقات على تفسير الجلالين" وكيف لا وهو يأتي بنص تفسير الجلالين في الجانب العالي لصفحات الكتاب أولا ثم بشرح واضح موجز لا يخلو عما يدور به العقلاء من المعارف النفيسة والبلاغة الفصيحة ولله در شارح العلامة الفانوري قد نجح في معالجة القضايا العصرية والأوضاع السياسية الأخرى في ضوء الآيات القرآنية مستندا الى البحوث والدراسات ولم يكن هذا التأليف يطرح شوكا في طريق السلف الصالح بل كثيرا ما استمد الكاتب من جل الكتب القيمة في تفسير القرآن الكريم للعلماء البارزين.
ذاع صيت السيد إسماعيل الآفاق بعدما حظي العالم بقريحته في التأليف بإصدار هذا التفسير فبذل له ليلا طويلا ونهارا وألفه ببحوثه العميقة مختلطا بين أساليب الكتب القديمة والآداب العربية المتداولة في العصر الجديد وإنما يكون له الفضل الكبير والمدح الجليل أنه ينحدر من عالم عجمي مليباري لا تعرف الثقافة العربية تجهل عما يدور على اللغة من تيارات تجديدية في البلاد العربية لكنه رجل أودع الله فيه مواهب العرب الحاضر وقريحة الأديب الراهن فكان نزاعا للعلم مولعا بالبحوث حينما بذل جهده لهذه الخدمة نحو تسع سنوات متواصلة لا يزعجه الأمور التافهة والقضايا العائلية الشاقة وجمع العلوم بوساطة الوسائل الإعلامية والشبكات العالمية مثل انترنت وما إليها.
ربما يعبر الشارح رحمه الله عن رؤيته الصارمة حول تدخل الإسرائيليات وتطفلهم لتخضيب الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم بخضبة الكفرية والضلالة، فقام برفض قصة الغرانيق في تفسير سورة الحج عند قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان".
السيد إسماعيل البخاري كان رمزا لمجد اللغة العربية وصقالتها وهو نبراس العلم انطفأ بعد حياة عامرة بالعطاء العلمي والإنجازات المباركة ورحل إلى جوار ربه وعمره أربعة وسبعون عاما |
من النوادر جدا أن يعالج التفاسير بالقضايا العلمية العصرية مثل كوبي البشرية ودمغ نظرية دارفين وبيولجيا وعلم الأجنحة إلا أن المؤلف يحلل كلا منها بصورة تحليلية دقة لا يخلو منها شيء حتى يظن القارء أنها موسوعة تكاد تتفجر منها عيون البحث والنقاش، لا شك أن اللغة العربية لغة فريدة فذة لشرح الآيات الربانية نسجت لحمها وسداها بأناقة اللهجة وطلاقة البديهة فيوجد في تفسيره أقوال السلف الصالح مع العناية بلغات العرب المتشعبة من خلال شعرها ونثرها، كتابه " صفوة الكلام في عقيدة الإسلام " مرآة صافية تجلت فيها مبادئ الإسلام من العقيدة يدور على الإيمان بالله والرسول والأنبياء والملائكة ويوم القيامة والقدر به عز وجل ونزول عيسى عليه السلام وغيرها. وهو حقا يبدى براعته في أدب الأطفال مع رعاية أسلوبه المشرق.
حظيت ولاية كيرالا بإصدار" الكلام في شرح العقائد النفسية" يعالج الأمور المتعلقة بالاعتقادات والتقاليد في المجتمع المعاصر وهو يشن الغارة على الملحدين ويرد كيدهم الى نحورهم ويطمس على وجوه أعداء الإسلام وهذا اللهم إلا من قوة حجته وشدة معارضته، له باع طويل ودور قيادي في مجال تنظيم الفقه الإسلامي حيث إنه دون كثيرا من الكتب وطبع بعضها في آخر حياته، لكل منها مكانة رئيسية لا تجحد في المجتمع المعاصر وكلامه رقيق اللفظ ورائق المعنى مقبول الصنعة.
ومن إسهامات العلامة السيد الفانوري "أدب المسلم في منهج الإسلام" الذي يعالج الأخلاق الإسلامية وبالإضافة إلى قريحته اللامثالية في النثر كان ضليعا في عمل الشعر لم يتكلف قولا ولا تعبا بحيث يصل شعره الى القلب بغير إذن ولم يكن ممن اتخذوا من الشعر ظفرا ونابا مزقوا بهما الأعراض وأشاعوا هجر القول ولكن اكتفى بذكر مناقب العلماء وقد انتهت اليه زعامة الخطبة العربية التي كانت تؤثر النفوس وتثير القلوب فقالوا : إنه السيد المليباري أفقه الشعراء وأشعر الفقهاء، ولو كان حقا ما يقال من أن له يدا طويلا في نهج البلاغة لما تردد منصف في الحكم بأنه أكتب الكتاب في اللغة العربية.
أجل إن السيد إسماعيل البخاري كان رمزا لمجد اللغة العربية وصقالتها وهو نبراس العلم انطفأ بعد حياة عامرة بالعطاء العلمي والإنجازات المباركة رحل الى جوار ربه وعمره أربعة وسبعون يوم الإثنين في العاشر من مايو 2010 م ولم يزل السيد ثلمة لا تسد وخسارة للأمة المسلمة لا تقضى عنها أبدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.