ولكن الحزب ورغم تمكنه من اكتساح انتخابات 2011 و2016، وحفاظه على شعبيته داخل الأوساط الناخبة، إلا أنه اقترب حسب العديد من المؤشرات من الخروج من الحكومة والانضمام إلى صفوف الأحزاب الأخرى العادية، التي تؤثث المشهد السياسي في المغرب دون فعالية حقيقية، إذ فشل الحزب حسب المؤشرات ذاتها في الحفاظ على ثقة وود المؤسسة الملكية، وهو ما يعتبر أرضية ضرورية للبقاء في الصورة، أهم حتى من ضمان كتلة انتخابية كبيرة ومخلصة.
تعتبر المملكة المغربية حسب ما يقره الدستور المغربي دولة إسلامية، ويتزين الجالس على العرش بجانب كونه ملكا ورئيسا لدولة حديثة، بلقب أمير المؤمنين، على اعتبار أنه المسئول عن الرعية المؤمنة والضامن للوحدة وحامي حمى الملة والدين كما يؤكد الدستور نفسه دائما.
تبنت المملكة المغربية موقفا إيجابيا تجاه الحركة الإسلامية بالداخل، حيث كان حضور الإسلاميين ضروريا للحفاظ على توازن المشهد السياسي |
وفي ظل هذه المعطيات، كان حضور الحركة الإسلامية يتراوح ما بين التألق والخفوت، فالتيار الإسلامي إما مطلوب للعب دور سياسي في بلد يعتبر الإسلام فيه حجر الأساس، كما حدث في فترة قبيل وبعيد الاستقلال، أو منبوذ على اعتبار أنه ينازع النظام الملكي القائم شرعيته الدينية التي تعد إحدى الثوابت الراسخة كما سبق الإشارة.
بدأت البوادر الأولى لظهور الحركة الإسلامية كتوجه سياسي في المغرب في السنوات التي سبقت الاستقلال عن فرنسا سنة 1956، إذ ذابت العديد من الشخصيات ذات التوجه الإسلامي داخل أحضان المقاومة الوطنية لطرد المستعمر الفرنسي كالدكتور عبد الكريم الخطيب مؤسس حزب العدالة والتنمية، فيما سطع نجم شخصيات أخرى كعلال الفاسي، مؤسس حزب الاستقلال، ورائد مشروع ما يسمى بـ "السلفية الوطنية" بالمغرب.
وخلال مرحلة ما بعد 1956، تبنت المملكة المغربية موقفا إيجابيا تجاه الحركة الإسلامية في الداخل والخارج، فداخليا، كان حضور الإسلاميين ضروريا للحفاظ على توازن المشهد السياسي، في ظل الحضور القوي للحركات اليسارية التي كانت معارضا قويا للنظام السياسي في المغرب، خصوصا خلال السنوات الأولى لحكم الملك الراحل الحسن الثاني.
أما على المستوى الخارجي، فقد لجأ عدد من أبناء التيار الإسلامي الفارين من جحيم البعث في سورية، والناصرية في مصر إلى المملكة المغربية، خصوصا أن الأخيرة كانت تعادي المشروع القومي العروبي الراغب في إنهاء الملكيات في العالم العربي.
ورغم الموقف غير المتصلب للنظام المغربي تجاه الحركات الإسلامية، إلا أن أول ظهور لهيكل تنظيمي تابع للتيار الإسلامي لم يكن إلا سنة 1969 بعد تأسيس عبد الكريم مطيع حركة الشبيبة الإسلامية، والتي أعلن مؤسسها أنها تنهل من ما "السلفية الوطنية" التي تجمع بين نشر الدين الصحيح وإعادة إحياء التراث الإسلامي الغني للمغاربة، لتكون بذلك حركة الشبيبة الإسلامية المصدر الأول لباقي الحركات والأحزاب الإسلامية التي ستنتشر في المغرب في وقت لاحق.
لكن حضور الشبيبة الإسلامية داخل الساحة السياسية والدينية في المغرب سرعان ما اختفى، بعد اغتيال القيادي اليساري عمر بنجلون، إذ اتهم عبد الكريم مطيع بالقيام بهذه العملية، ما جعله يواجه حكما بالسجن المؤبد سنة 1980 وحكمين بالإعدام سنتي 1981 و1985، ليفر القيادي الإسلامي إلى المملكة العربية السعودية فليبيا ليستقر به الأمر ببريطانيا التي طلب منها لجوء سياسيا.

وبعد أن أصبحت الحركة ممنوعة أمنيا وطار رأسها إلى خارج البلاد، اختار عدد من أعضاء الحركة وهم عبد الإله بنكيران، وسعد الدين العثماني وعبد الله باها ومحمد يتيم، الانشقاق وتأسيس الجماعة الإسلامية سنة 1981 التي أخرجت وثيقة تؤكد فيها رغبتها في العمل علنا وليس سرا مع التأكيد على الانسجام مع ثوابت البلاد ومنها النظام الملكي ونبذ العنف بجميع أنواعه.
ومع دخول التسعينيات، وتحديدا في سنة 1992، اختار أعضاء الجماعة الإسلامية تغيير اسمها إلى حركة الإصلاح والتجديد، ليتم سنة 1996 الاندماج مع رابطة المستقبل الإسلامي وينشأ عن هذا الاندماج تأسيس حركة التوحيد والإصلاح التي تعتبر في الوقت الحالي الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية الذي تأسس في نفس السنة عن طريق الدكتور عبد الكريم الخطيب.
بجانب حركة التوحيد والإصلاح ذات المهمة الدعوية، كان ضروريا أن يجد الإسلاميون أداة سياسية يمكنهم من خلالها الدخول للعبة السياسية وبذلك تكون حزب العدالة والتنمية، الذراع السياسي للحركة الساهر على تحقيق أجندتها السياسية.
ظل حزب العدالة والتنمية حزبا عاديا في صفوف المعارضة حتى سنة انتخابات سنة 2002، أول انتخابات في العهد الجديد بعد تولي الملك محمد السادس للحكم خلفا لوالده الراحل الحسن الثاني، تمكن الحزب خلال هذا الاستحقاق الانتخابي من الفوز بـ 49 مقعد بالبرلمان المغربي من أصل 325، علما أنه لم يشارك سوى في 60 بالمائة من الدوائر الانتخابية، ليحل بذلك في المركز الثالث ما اعتبر طفرة حقيقية.
وبالرغم من أن الحزب عاش لحظات عصيبة سنة 2003 بعد تفجيرات 16 ماي بمدينة الدار البيضاء، حينما وجهت أصابع الاتهام لجميع أطياف التيار الإسلامي، إلا أنه تمكن من تجاوز هذا الامتحان الصعب، وظل صامدا حتى سنة 2011، حينما حملت رياح التغيير الإسلاميين إلى كراسي الحكم في جل الدول العربية.
في هذا السياق بدأ حزب العدالة والتنمية تسويق نفسه للقصر الملكي، إذ رفض بنكيران في بادئ الأمر خروج مناضلي حزبه في مظاهرات 20 فبراير 2011، مفضلا "تقديم السبت"، مع تأكيده صباح مساء أن الإصلاح في المغرب لا يمكن أن يحدث دون الاستقرار مؤكدا على الثوابت الوطنية الدين الإسلامي، الوحدة الوطنية، والملكية.
وبهذا تمكن حزب العدالة والتنمية المغربي من الوصول إلى الحكم لأول مرة في تاريخه، ليختار الملك محمد السادس عبد الإله بنكيران، الأمين العام للحزب رئيسا للحكومة المغربية حسب مقتضى الدستور المغربي، ثم تبدأ بعدها لعبة التوازنات بين الإسلاميين والقصر في ظل نظام سياسي لا يستوعب جيدا التيار الإسلامي كأحد مكوناته.
تمكن حزب العدالة والتنمية رغم رصد مجموعة من الخروقات الانتخابية للإطاحة به، من الفوز بانتخابات أكتوبر 2016، ليفرض الواقع عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة المغربية لولاية ثانية |
حسب ما كان متوقعا، قدم حزب العدالة والتنمية العديد من التنازلات من أجل ممارسة السياسة من بوابة الحكم، ولعل جملة عبد الإله بنكيران "أصبح أقل تدينا منذ دخلنا إلى الحكومة" تلخص الكثير من ما يمكن أن يقال، إذ وصل الأمر إلى فصل ما هو ديني عن ما هو سياسي، في خطوة علمانية واضحة تسطر توجه الحزب نحو السياسة دون الالتفات للجانب الشرعي في هذا الصدد.
لكن ورغم الإخلاص الكبير لشخص الملك من طرف جميع قيادات الحزب، إلا أن العدالة والتنمية ظل متحفظا حول تأثير بعض مستشاري الملك على الوضع السياسي في البلاد، وهو ما دفع بنكيران إلى الحديث عن حكومة ظل تحكم البلاد من الكواليس خلال حدث له شهر ماي سنة 2016، مشككا في نزاهة الانتخابات التي كانت ستجرى شهر أكتوبر من نفس السنة، ليخرج الملك إلى عموم الشعب بخطاب شهر يوليوز 2016 بمناسبة عيد العرش أبدى فيه غضبه من تصريحات بنكيران التي كانت تلمح إلى بعض مستشاريه وعلى رأسهم فؤاد عالي الهمة الصديق الشخصي له، محملا الحكومة المسئولية كاملة في حال ثبت أي تزوير في الانتخابات.
تمكن بعد ذلك حزب العدالة والتنمية ورغم رصد مجموعة من الخروقات الانتخابية للإطاحة به، من الفوز بانتخابات أكتوبر 2016، ليفرض الواقع عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة المغربية لولاية ثانية، إلا أنه فشل في تشكيل الحكومة بعد عرقلة حزب التجمع الوطني للأحرار، المقرب من القصر، لمشروع الإسلاميين، بعد تشكيله لتحالف مع عدد من الأحزاب يقضى بالدخول إلى الحكومة جماعيا أو رفض التحالف مع العدالة والتنمية، ما رفضه بنكيران جملة وتفصيلا، ما دفع الملك للتدخل مرة ثانية بإعفاء بنكيران وتعيين زميله سعد الدين العثماني مكانه، ليقبل الأخير بكافة الشروط السابقة لتسريع وتيرة تشكيل الحكومة.
انقسم الحزب بعد ذلك إلى تيارين، أول بقيادة عبد الإله بنكيران الأمين العام السابق ورئيس الحكومة السابق، وثاني بقيادة العثماني الأمين العام الحالي ورئيس الحكومة الحالي، كما أصبح الإسلاميون أقلية داخل حكومتهم ما يمهد ربما، لنهوض قريب من كرسي الحكم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.