شعار قسم مدونات

المتوكل على الله وتشكيل النصوصية

مدونات - خليفة
وصل المتوكل على الله إلى الحكم كخليفة للمؤمنين في مرحلة من أهم مراحل التاريخ الإسلامي؛ وذلك لأن هذه المرحلة بظروفها السياسية والفكرية والعلمية دائما ما صُبِغت بها مراحل أخرى على امتداد التاريخ الإسلامي، فكانت دائما ما تنتج بنفس الظروف وبنفس الرجال الذين صنعوها وإن اختلفت المسميات والأسماء.
وصل المتوكل على الله إلى الحكم بعد ثلاثة من الخلفاء بدأت بهم محنة خلق القرآن، وهم: المأمون ثم المعتصم ثم الواثق، وفي أثناء فترة حكمهم كان الاعتزال قد أصبح مذهبا له محبوه ومريدوه. تياران فكريان كانا يسيطران على الحركة العلمية والفكرية: تيار المعتزلة (أصحاب الرأي)، وتيار أهل السُّنَّة والجماعة (أصحاب النص)، وكانت المعتزلة تسيطر على الحياة السياسية؛ حيث يميل إليهم الخلفاء ويتخذونهم أعوانا ووزراء، فأحمد بن دؤاد قاضي القضاة وقتها كان معتزليا، أي أنهم يتحكمون في السياسة؛ بل ويصنعونها أحيانا.
 
في محنة خلق القرآن استخدم المعتزلة القضية كوسيلة للتخلص من خصومهم الفكريين، وكان ذلك واضحا تمام الوضوح؛ حيث تريد المعتزلة أن تجعل الاعتزال فكرا رسميا للدولة وللمجتمع، ولقد كانوا أكثر غلوّا في فرض آرائهم ومعتقداتهم، فأرادوا أن يتخلصوا من خصومهم تخلصا أبديّا بالمعنى الذي أراده بعد ذلك أصحاب الحديث من المعتزلة.
 

صحيح أنه قبل المتوكل كان هناك اضطهاد مستمر للنصارى، لكن ذلك كان خاضعا لظروف سياسية وليست دينية أو عقليةً، وما أن تنقضي هذه الظروف السياسية حتى تعود الأمور لطبيعتها كما كانت

بعد انتهاء المحنة ووصول المتوكل إلى الخلافة وصل الأمر بالنصوصيين إلى درجة أن أحمد بن حنبل كان يستخدم قضية خلق القرآن كمعيارٍ للحكم على صحة الرجل وضعفه في إسناد الحديث. وصل المتوكل على الله إلى الخلافة وما إن وصل حتى منع الخوض في علم الكلام والتحدث به، وأمر بعدم الكلام في خلق القرآن، وبدأت مرحلة الاضطهاد السياسي والفكري لمفكري المعتزلة وقادتهم السياسيين؛ ما أدى بعد ذلك إلى أفول نجمهم العقلي الذي مثّل مرحلة من أهم وأشرف مراحل الفكر الإسلامي، وبدأت الدولة تتخذ النص كمذهب رسمي للمجتمع، يسيطر على المجتمع النصوصية وتجد من يناصرها.

 
جاء المتوكل فقرّب إمام أهل السنّة والجماعة أحمد بن حنبل، وأمر بهدم قبر الحسين -رضي الله عنه- ونادى في الناس أنّ من وجدناه هنا عاقبناه، جاء المتوكل وبدأت معه أكبر مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي اضطهد فيها أهل الذمة من النصارى، فقدْ أمر المتوكل بالتمييز بينهم وبين المسلمين في الملبس والمأكل والمشرب، وأمر بتخريب كنائسهم المُحدّثة وبتضييق منازلهم المتسعة، وأمر بتسوية قبورهم بالأرض وكتب بذلك إلى سائر الأقوام، وذُكِر أن نصرانيّا يُسَمى عطارد أسلم وجلس في الإسلام سنين ثم ارتد فأمر المتوكل بقتله.
 
يقول ابن أبي أصيبعة: كان محمد وأحمد بْنا موسى بن شاكر يكيدان كل من ذُكِرَ في معرفة.. فدبرا على الكندي (الفيلسوف) حتى ضربه المتوكل. كل هذه الأشياء جعلت الفكر النصوصي فكرا رسميا للدولة تتبناه وتدافع عنه وتعتنقه؛ ما جعل النص في صعود مستمر، وفي الوقت نفسه بدأ الرأي في اندثار وتغيُّب إلا شذرات هنا أو هناك.
صحيح أنه قبل المتوكل كان هناك اضطهاد مستمر للنصارى، لكن ذلك كان خاضعا لظروف سياسية وليست دينيةً أو عقليةً، وما إن تنقضي هذه الظروف السياسية حتى تعود الأمور لطبيعتها كما كانت. لا نخطئ الحقيقة إن قلنا: إن المتوكل شكّل في التاريخ الإسلامي مثل ما شكل قسطنطين في الديانة المسيحية مع الفارق الموضوعي بينهما، أعني أن ما تركه المتوكل ظل يُمارَس بشكل رسمي من خلال المجتمع النصوصي، فالتعامل مع أهل الذمة، والتفكير الظاهري للنصوص، وقضايا الفقه بشكل عام كعقوبة المرتد والتعامل مع الأضرحة، والبغض الشديد للتفكير بوجه عام وللفلسفة بوجه خاص، وغيرها من القضايا؛ أصبحت تُمارَس بشكل رسمي نصوصي رغم جهود مَن جاهد من أجل إصباغ فكرة عقلية على قضايا الإسلام.
يصف المسعودي المتوكل فيقول: لما أفضت الخلافة للمتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل، والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق، وأمر بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث، وإظهار السنّة والجماعة.