شعار قسم مدونات

السعودية والتحديث من فوق

مدونات - السعوديات في الملاعب

يسابق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الزمن للوصول إلى الحكم وخلافة أبيه بطريقة مثيرة للعجب تدفع المتابع لهذا السباق إلى التساؤل: ماذا سيفعل ولي العهد بعد أن يلبس لبوس الملك ويتخلى عن العهد؟  سؤال يفرضه منطق السياسة والتاريخ فعادة يترك الملوك والساسة القادمون إلى الحكم ما يقدمونه بمناسبة هذا القدوم الجديد مما كان وعدا انتخابيا مثلا في البلدان الديمقراطية أو هبة ملكية في دولة نظامها ملكي مثلما هو الشأن في المملكة العربية السعودية، ويعد هذا الجديد "وجه السوق" بتعبير أهلنا في تونس ومبادرة حسن النية بلغة السياسة حتى يثق الشعب في القادم الجديد.
 
لكن يبدو أننا نميل أكثر إلى وصف أهل تونس لمثل هذا الجديد إذ فيه تعبير عن عدم الديمومة باعتبار السوق حالة منتهية في الزمن تنتصب في لحظة ومكان ما ثم تنقضي إضافة إلى ما في العبارة من مغالطة واحتيال يعرف عادة عن رواد السوق من الباعة الذين يحاولون تزيين بضاعتهم للناس إلا قليلا. هذا التوصيف التونسي ينطبق على السباق المحموم الذي يخوضه محمد بن سليمان ولي العهد السعودي مع الزمن للوصول إلى الحكم مع تنسيب طفيف لكنه جوهري مفاده أن ولي العهد كشف وجه السوق والبضاعة قبل الولوج إلى السوق ما يجعل المتابع للشأن السعودي في حيرة من أمره: ما الذي بقي لولي العهد حتى يقتحم به السوق الذي سيدخله في قابل الزمن إن سارت الأمور دون مفاجآت؟

 

سيفاجأ ولي العهد السعودي حين يستقر على عرش سليمان أبيه بأن دابة الأرض أكلت عرش أبيه قبل أن يستقر عليه حين كان منشغلا باستباق الزمن لهذا الجلوس وأن الشعب السعودي لن يلبث في العذاب المهين

قد يقول قائل: إن ولي العهد الآن هو الحاكم الفعلي للمملكة ولا حاجة له بوجه السوق مادام السوق كله ملكا له وهو في غنى عن اثبات حسن نيته مادام الأمر قد آل إليه والناس يرضون حكمه ولا يسألون، وهذا القول في جزئه الأول دقيق فلا يختلف عاقلان في أن المقاليد الآن في المملكة هي بيد محمد بن سليمان والأمر شكلي ينتظر ملك الموت وربما قد يستعجله إن شعر أن أمرا ما قد يذهب طموحه لكنه في جزئه الثاني يحتاج إلى مزيد من التدقيق، فمسألة الناس هذه معقدة وصعبة وقد يرضى البعض ويجدون في أنفسهم هوى لابن سليمان لكن بلا شك هناك في الناس من لا يرضى ما يأتيه ولي العهد وإن سكت عنه خوفا أو كرها هذا فضلا عن أولئك الذين يجاهرون بمعاداة بن سليمان في الداخل والخارج، وتلك طبيعة الشعوب التي لا يقدرها المستبدون المستعجلون والمسيطرون حق قدرها. وهنا مكمن الحديث وقلب الرحى فما يفعله ولي العهد في سباقه الغريب العجول نحو الحكم قد يذهب بطموحه وآماله في لحظة يؤتى فيه الحذر من مأمنه، ذلك أنه يخوض حربا ضد شعبه جهل فيها حقائق التاريخ والجغرافيا وغفل عن "فقه تنزيل" الأحكام والسياسات.

 

ربما يأمن بن سليمان الآن وهنا تلك القاعدة الأصولية المعروفة من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فعلماء بلاده إلا قليلا صاروا الآن تجار فتوى يأتمرون بأمره ويغيرون الحكم الشرعي مثلما يغيرون لباسهم ولا نظن أنهم سيذكرون هذه القاعدة الأصولية رغم أنهم من المتمسكين بحرفية النص على ما عهدناه منهم منذ تأسيس المملكة، لكن الأمر لن يحدده بن سليمان ولا حاشيته من العلماء بل قوانين الاجتماع البشري والشعب السعودي ليس بدعا من الشعوب حتى يشذ عنها وتلك سنن الله في خلقه.
 
مقصد الحديث أن ولي العهد السعودي وهو يستعجل الزمن نحو الكرسي يخوض ما يعتقد أنه إصلاح ضروري قد يؤمن له مستقبل الحكم في بلاده وهو تغيير نمط الاجتماع وثقافته ومرجعياته. وليس عيبا أن يقوم حاكم ما بتغيير ما قد يراه عقبة كؤدا أمام تطوير شعبه والسعي به إلى الرقي، لكن العيب أن يكون هذا السعي سعيا متعاليا مسقطا ومخالفا لقوانين الاجتماع البشري وهذا ما يفعله بن سلمان بالضبط. فالشعب السعودي عرف منذ تأسيس المملكة وحتى قبلها ولم يكن يكنى بالسعودي عرف بعلاقته الخاصة بالإسلام بحكم موقعه وبحكم المسار التاريخي الذي صاحب نشأة الدولة في أرض الحجاز وكل محاولة للإعادة النظر في هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل إذا كانت تعتمد الإكراه والإسقاط والقفز على الحقائق.

 

نشر الموسيقى الصاخبة والسماح للمرأة بالسياقة ودخول الملاعب التي كانت ممنوعة بنصوص تشريعية فقهية ليست وحدها الكفيلة بخلق مجتمع جديد
نشر الموسيقى الصاخبة والسماح للمرأة بالسياقة ودخول الملاعب التي كانت ممنوعة بنصوص تشريعية فقهية ليست وحدها الكفيلة بخلق مجتمع جديد
 

شاهدنا على ذلك تجارب التحديث المسقطة التي شهدها العالم الإسلامي على يد نخبة سبقت بن سليمان بمئات السنين وحظيت بما لم يحظ به هو من قبول شعبي ورصيد نضالي في مقاومة الاستعمار، لكنها حين خاضت تجربة التحديث المتعالية غير مراعية لقوانين الاجتماع وخصوصية المجتمعات واجهت فشلا ذريعا رغم ما تزعم أنه نجاح وما قد يبدو للرائي من بعيد كذلك فمجتمعاتهم إما أنها تعيش حالة من الانفصام بين رؤاها القديمة ومرجعياتها القيمية وبين ما حاول قادتها ترسيخه بعد معركة التحرير وإما أنها عادت إلى إحياء ما كانت تخشاه هذه القيادات التحديثية في علاقة بالدين.

 

وسيكون الأمر أصعب وأشد بالنسبة للمملكة العربية السعودية بالنظر لرمزيته الدينية في العالم الإسلامي وللعلاقة الخاصة لشعبها بالإسلام فهو خلافا لكثير من دول العالم الإسلامي عاش تجربة نظام اجتماعه وفقا لمرجعية عقدية تتبنى رؤية فقهية معينة وتلتزم بها في نظام الحكم والاجتماع، قد نختلف معها لكن لا يمكن أن ننكر أثرها في وسم الذهنية العامة للسعوديين بوسم خاص يحتاج تغييره إلى إدراك هذه الحقيقة والتعامل معها بهدوء ورصانة وليس بالفرض والغصب، فنشر الموسيقى الصاخبة والسماح للمرأة بالسياقة ودخول ملاعب الكرة وتنظيم المهرجانات التي كانت قبل ذلك ممنوعة بنصوص تشريعية فقهية ليست وحدها الكفيلة بخلق مجتمع جديد كما يتصوره بن سليمان أو كما يطلب منه أن يصنعه.

 
إن قوانين الاجتماع تقول لنا إن القيم المجتمعية تنكفئ على نفسها إذا شعرت بأن عرضة للحرب وتنغلق ضد أي محاولة للتفكيك أو حتى للحوار معها وتتخذ موقع المدافع الشرس عن وجودها، وقد يخيل لابن سليمان أنه نجح ظاهريا في فرض رؤياه بمجرد اجراءات وفتاوى على المقاس وحسب الطلب لكن الماء حين ينساب لا يكشف عن كل اتجاهات انسيابه.

  undefined

 

سيفاجأ ولي العهد السعودي حين يستقر على عرش سليمان أبيه بأن دابة الأرض أكلت عرش أبيه قبل أن يستقر عليه حين كان منشغلا باستباق الزمن لهذا الجلوس وأن الشعب السعودي لن يلبث في العذاب المهين الذي ينوي محمد بن سليمان أن يديمه خمسين سنة كما يفتخر بذلك لأنه سيكون وجه السوق قد انقضى واللعب صار على المكشوف ولم يعد هناك غيبا لا يعرفه الناس.

 
هؤلاء الناس سينظرون حين يرفعون أعينهم إلى سماء الحرمين إلى طائرات العدو الصهيوني تعبر أجواء الحرمين تزعج حمامها الآمن وسيكتشفون أنهم يدفعون الجزية لعدوهم وهم صاغرون خلافا لما قرؤوا وما عرفوا وما خبروا، وسيرون أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم الأخوة الخليجية والعربية والإسلامية ويُرمون كرها في أحضان منظومة أخرى تختلف عنهم قيميا وروحيا وتنظر إليهم بازدراء وتعال وأنهم مجرد بقرة حلوب لن يقف شح الحليب من ضرعها حائلا أمام امتصاص دمها.. سيرون كل ذلك ولن يكون أمامهم غير المقاومة التي لم تنقطع عنهم وقد تكلفهم كثيرا وهي حتما كلفتهم لكنها ستجبر ولي العهد ومن معه ومن خلفه على الرحيل إلى قمامة الذكرى حيث لا موت ولا أمل، فالشعوب لا تقهر والتحديث لا يكون ناجحا إلا إذا نبع منهم ومن نسي هذه الحقيقة كان مثله كما يقول القرآن "كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.