فرغتُ ذات ربيع من محاضرة لقيادات تعليمية وفدت من بلد عربي لاستلهام نظم التعليم الأوروبية. تزاحمت الأسئلة عن كيفية استنساخ النظم التي أبهرت القوم، فأجَبْتُ بأنّ اقتطاف النماذج لا يتحقق بمعزل عن السياقات التي تطورت فيها، وأنّ الاستفادة الجزئية أو الفنية من بعض التطبيقات واردة حقا، لكنها لن تعمل كما ينبغي بمعزل عن ملابساتِ أصلها ومتلازمات بيئتها.
صارحتُ القوم بأنّ المدرسة ذاتها تبقى في التجارب الأوروبية الغربية حلبةَ مفاوضةٍ مجتمعية وفق النظام الديمقراطي بوَرده وأشواكه، وأنّ أيّ قرارات بتعديل الدوام المدرسي أو تغيير المناهج لا تهبط فجأة من "معالي الوزير حسب توجيهات سموِّه"، بل تمرّ بمخاضات شاقة وتدافعات ضارية بين جماعات مصالح تمثِّل أولياء أمور التلاميذ وقطاعات المعلمين وإدارات المدارس كل على حدة، علاوة على قوى ضغط معبِّرة عن الاقتصاديين وما يرونه من أولويات لتلبية ما يحتاجونه من الموارد البشرية في العقود المقبلة، بينما تقعد النقابات لهم كل مرصد. سألتُ القيادات التعليمية الحائرة: هل تحتمل بلادكم العزيزة شيئا من هذا التفاعل الديمقراطي الساخن؛ بينما لم تسمَح إلى اليوم بانتخاب جمعية واحدة للطلبة؟
وصَلَت الرسالة الشائكة بهزّ الرؤوس مع نظرات خفيضة، ومعها أدركت القيادات التعليمية أنّ انبهارها بالأفقي حجب أنظارها عن التدقيق في العمودي. لكنّ آخرين اندفعوا إلى استنساخ شكلي للتجارب بلا هوادة، حتى باشروا استزراع فرنسا ذاتها في عاصمتهم؛ لكنها فرنسا الأفقية السطحية الجزئية المقلّدة؛ دون جوهرها الكامن وخبرتها التاريخية وواقعها الفعلي. استولى بريق باريس على أذهانهم، فطلبوا نسخة نموذجية من المدينة الراقدة على السين. تم شراء "باريس مصغرة" بأموال سخية، عبر تدشين فروع لمعالمها الأشهر، مثل اللوفر والسوربون؛ فافتتح كلاهما أبوابه في عاصمة عربية؛ غير بعيد عن ناطحات سحاب صعدت على منوال مانهاتن.
إدراك التجارب على بصيرة لا يتحقق بالاقتصار على نتاجها والسعي لاقتطاف ثمارها الناضجة، بل يتطلب المسعى تشخيصَ شروطها ومقدماتها، والوعيِ بظرفيّاتها وملابساتها، واستشراف تفاعلاتها ومآلاتها |
تستدعي فكرة التقمّص الجاهز هذه معضلةَ الاكتفاء بالأفقي دون العمودي، فباريس التي يريدون إنما هي المتمثلة بألقها الانطباعي وحده؛ دون ثورتها الفرنسية أو "قيم الجمهورية" بالطبع. تم إعفاء أساتذة السوربون الوافدين إلى جزيرة العرب من تقديم دروس الثورة والحرية والمساواة، أو استعراض خبرات شعبهم في إضرابات التحدي والفعاليات المطلبية، أو حتى اقتحام السجون على طريقة واقعة الباستيه؛ أو الباستيل كما يسمى في الأدبيات العربية.
يتداول الجمهور العربي صور ملوك ورؤساء حكومات أوروبيين يتحركون على دراجات، ومقاطع لوزراء "بيض" يستعملون المواصلات الشعبية مثل مواطنيهم. تنساح هذه المشاهد في صور ومقاطع تحظى برواج واسع في مجتمعات لم تجرِّب مثلها.
قد تقرع المقارنات مع الواقع العربي الانتباه إلى أهمية تواضع الحاكم لشعبه، لكنّ عقد مقارنات مصوّرة عبر الوقوف عند النتاج النهائي للتجارب وحسب؛ لا يمنح فرصة الاستفادة الفعلية من العِظة كما ينبغي. فإدراك التجارب على بصيرة لا يتحقق بالاقتصار على نتاجها والسعي لاقتطاف ثمارها الناضجة، بل يتطلب المسعى تشخيصَ شروطها ومقدماتها، والوعيِ بظرفيّاتها وملابساتها، واستشراف تفاعلاتها ومآلاتها.
أما العرب الذين تدهمهم صور لبعض كبار المسؤولين في دول أوروبية وهم يأكلون الطعام كمواطنيهم ويمشون في الأسواق؛ فينصرفون إلى تأويلها من خلال خبراتهم الذاتية، بأنّ هذا المسؤول تحديدا قد تواضع لشعبه واختار مسلك الزهد في الدنيا وتخلّى عن جاه المنصب، فلا يقع إدراك ملابسات المواقف كما هي.
يتبدّد المغزى العمودي تحت وطأة الافتتان الأفقي، فيغيب الوعي بما تطوّر من آليّات في المجتمعات التعاقديّة والدول الديمقراطية أسفرت عن المشاهد التي تبهر أقواماً آخرين في صور مبعثرة ومقاطع متفرقة، وهي آليّات تجعل السلوكَ الذي يختطف أنظارَ أمم أخرى حُرِمَته؛ متوقعاً واعتيادياً، بل هو الأصل، فلا فضيلة مخصوصة فيه لحاكم أو لوزير أو لمحافظ أو لمدير، ذكراً كان أم أنثى، وإنما هي فضيلة نظام تأسّس منذ زمن، وتكرّست معه تقاليد لا يسع القوم المروق منها إن أرادوا، ما لم يتحايلوا لمروقهم بفنون متوارية عن الأنظار وقد تكشفه قضايا فساد تغدو موضوعا للملاحقة والتشهير.
هكذا يستولي الانبهار على أمم ترى حاكماً في أقصى الأرض يخالج محكوميه في وسائل المواصلات العامة أو يمضي على درّاجته في المسالك، فيعدّه المنبهرون تواضعاً منه وخفضاً للجناح، رغم أنه الأصل في بيئته والعُرف في منبته، وهو نتاج نظام وثمرة تعاقد.
وقد أدرك المتعالون المستبدّون مفعول هذا الانبهار الذي يأخذ بألباب شعوبهم، فدأب بعض الطغاة على تقمّص المظهر دون الجوهر ومحاكاة الفعل بعد سلخه عن فحواه، طلباً لتزكية الصورة ومجد المشهد. يخرج أحدهم إلى شعبه فجأة وسط حراسة مشددة، أو يظهر وهو يقود سيارته في الطريق العام أو متفقداً أكواخ الفقراء حاملا الفتات إليهم. يبقى الفارق الجلي بين الواقع والافتعال، أو بين الحقيقة والزيف؛ في حرص المستبدّ على استحضار الكاميرا لتصوير "اقترابه من المواطن والتحامه بالجماهير"؛ خلافا للسلوك الاعتيادي الخالي من التكلّف، وسيحظى تحرّكه المفتعل بين الناس بأفضل أوقات البث في أبواق الدعاية الرسمية.
وإذ تقوم الصورة أو المشهد، بطبيعتهما، على الاجتزاء من السياق؛ فإنّ فهم خلفيات ما يُرَى وشروطه وملابساته لا يتأتى للناس جميعاً خارج بيئته، فكيف إن كان المشاهدون في بيئات محكومة بنظم مكرّسة لخدمة أفراد، فيحسبون من واقع خبراتهم أنّ عيش الحاكم مثل المحكومين هو فضيلة منه وتواضُع وزهد، دون أن يدركوا أنه سلوك نمطي في سياقه، فالذين يظهرون في الصور الواقعية – أياً كانوا – هم أفراد مسؤولون يخدمون نظماً وينصاعون لها وإن وقفوا على رأسها.
قد يكون من المفيد عقد المقارنات السلوكية مع بيئات أخرى؛ شرط عدم الاكتفاء في ذلك بنظرة أفقية لا تسبر الأغوار ولا تفقه الآليّات والنظُم. فالنظرة العمودية تتجاوز سذاجةَ المُغايَرة البصرية والمُفارَقة البيئية والانشغال السياحي "بما عندهم وما عندنا"؛ فتمضي إلى التبصّر بفقه الأحوال وإدراك عمقها وفحص مغزاها على نحو يَلحَظ بوعي ولا ينبهر، فيدرك التجربة في تألّقها ولا يصرف عيْنيه عن مكامن قصورها وجوانب خللها؛ اتقاءً لما يحصل – لا محالة – في كل تجربة من عثرات وكبوات وسوء تصرّف وتنزيل.
أما الانبهار بتجارب الآخرين فلا يتيح الأخذَ عنها بوعي وثقة أو الردّ منها باقتدار ودراية. فالنظرة المنبهرة تستدرج قومها إلى التقمّص الساذج والمحاكاة الجوفاء وتُعَطِّل استعمالَ قواهم في التفاكر والتثاقف والتبادل والاجتراح الإبداعي. فالانبهار بتجربة يُظَنّ من بعض نتاجها أنها "جيدة للغاية" أو بلغت نهاية التاريخ؛ قد يصرف النظر عن تجارب تفوقها وتتقدّم عليها لدى أمم أخرى، أو يعطِّل الوعي بتناقضات في أحشائها لم يلحظها المفتونون بها.
ينبهر القوم بمشهد زنزانة اسكندنافية تبدو غرفةً فندقية للوهلة الأولى. قد يرَوْنها جذابة بحق، لكنها تبقى رادعة في مجتمعها، وإن تمنّى بؤساء الأرض الإقامة فيها ملاذا من عشوائياتهم |
تستعمل الجماهير مشاهد الحكام الذين يعيشون مثل شعوبهم في رسالة نقدية لاذعة يبعثون بها، ضمناً، إلى من يحتمون بقصور فاخرة دون شعوبهم، لكنّ هذا الانتقاء المصوّر لا يكفي وحده لإدراك الخيارات المتاحة والإصلاحات المطلوبة، وإن استثار التنبيه والإيقاظ والتسديد، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ينبهر القوم بمشهد زنزانة اسكندنافية تبدو غرفةً فندقية للوهلة الأولى. قد يرَوْنها جذابة بحق، لكنها تبقى رادعة في مجتمعها، وإن تمنّى بؤساء الأرض الإقامة فيها ملاذا من عشوائياتهم. تعمل فلسفة الردع والجزاء حتى مع هذه الزنزانة وإن رأتها أقوام أخرى حجرةً فاخرة، إذ يكفي مبدأ الحرمان من الحرية والحجز عن الملذّات لينهض عقابا أليما على من يتنزّل عليهم، وإن لم يُقصَد منه تحطيم الإنسان وامتهان كرامته بل إصلاحه وتقويمه وقطع دابر التجاوزات.
كثيراً ما تغيب النظرة العمودية الفاحصة مع التعليقات الظريفة التي تصحب الصور عن سجن أشبه بمنتجع، وقد يميل المنحى إلى تناوُل غرائبي لتجارب الأمم الأخرى كما يجري في برامج تلفزيونية شهيرة تتعقّب مفارقات كهذه وتستعرض نجاحات استثنائية تحققت في بيئات أخرى في المرافق العامة والحياة المدرسية وأنظمة المجتمع.
تبقى فرص الاستفادة محدودة مع منحى الاجتزاء هذا، لأنه يتعامل مع الجزئيات ويُغفِل السياق، ويحرِّض على محاكاة الآخرين دون فهم كافٍ للمقاصد والخلفيات والمآلات. لقد تطوّرت بعض المدارس شكليا في بيئات عربية من خلال تقمّص سِمات مرئية في تجارب مدرسية غربية، بما أسفر عن واقع مدرسي حافل بالتلفيق الشكلي واللغوي، أو استحال نسخة مقلّدة عالة على أصلها وعاجزة عن التطوّر الإبداعي الذاتي أو الدفع بأجيال متمكنة من الإبحار فوق أمواج متعالية.
تأنَس النظرة الأفقية بالمفارقات وتستهويها الغرائب، فتبحث عن التمايزات الظاهرة عن المألوف، وتقتطف جزئيات مخصوصة من سياقاتها وتُؤْثِرها على غيرها في الإخبار عنها وتصويرها وحمل مشاهدها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، فينعقد تصوّر ساذج بأنّ هذه الجزئيات المستلّة من سياقاتها هي تماماً ما يستأهل تمثيل السياقات التي تُحسَب هذه الجزئيات عليها.
إنّ معضلة الصورة الاستشراقية عبر القرون، منذ أن كانت لوحاتٍ تُرسَم ورواياتٍ تُحكى؛ أنها تخترع "الشرقي" وتجسِّده محكيّا ومصوّرا بما يوافق القوالب النمطية والأحكام المسبقة الساذجة. وقد ظلّت المشاهد المتجددة عن "الشرق" وفيّة لهذه النزعة في زمن الفوتوغرافيا والأفلام والأغلفة الملوّنة ووكالات الصور ومواقع التواصل الاجتماعي. ليس من فراغ، إذن، أنّ الالتقاطات المفضلة في التغطيات الإعلامية الأوروبية والمُعولمة عن المساجد لا تَغفل عن مشهد السجود، ويختطفها مشهد الأحذية المتراصّة في المداخل، فهذا الانشغال هو من التعبيرات الجلية عن التمايُز البصري الذي لا يُرى مثيله في الكنيسة والمرافق الاجتماعية في السياقات الأوروبية والغربية.
وإذ يمنح العيش في "القرية الكوكبية"، بتعبير مارشال ماكلوهان، فرصةَ اقتراب في رؤية مكوِّنات المجتمع الإنساني الواسع والمتنوِّع؛ فإنه يبقى اقترابا ظاهريا ومجتزءاً لا يقضي بفهم شركاء الإنسانية ولا يدعم وحده مقومات التفاهم بين الأقوام والمكوِّنات؛ بل قد يمنح الأولوية لتعزيز سوء الفهم وبثّ الأحقاد وإشاعة الضغائن.
إنّ إبصار مكوِّن إنساني محسوب على ثقافة أخرى يصرف النظر، ابتداء، إلى مفارقات غير مألوفة دون إرفاقها بتفسيرات لازمة لفهمها، بما يفتح الباب على مصراعيه للشكوك وسوء التأويل وفهم "الآخر" بمنظور غرائبي يحرِّض أحيانا على نزع الصفة الإنسانية عنه أو التهوين من مكانته الحضارية وخصوصيته الثقافية.
وقد اكتشفت نزعات التسخين الجماهيري فرصها في التحريض ضد من تعدّه خصماً عبر التناول السطحي والمجتزأ لمظاهر مخصوصة ومقتطفات بعينها؛ دون إفهام الجمهور خلفياتها وشرح متلازماتها. تقوم دعاية الإسلاموفوبيا، مثلا، بإسقاط مفهوم سلبي على بعض سلوكيات المسلمين، أو تسليط تأويلات ذميمة على لباس المسلمات لأهداف التشويه والتحريض المفضية إلى التضييق والحظر، وقد انتهى الأمر في سويسرا القرن الحادي والعشرين إلى منع تشييد المآذن بموجب استفتاء شعبي بعد أن وقع تشبيهها بالصواريخ.
مما يحرِّض على الاكتفاء بالنظرة السطحية للأشياء اعتيادَها وهيمنة قوالب نمطية في فهمها لا تشجِّع على تأمّلها للتحقق منها أو إعادة فهمها. وقد هيّأ القرآن الكريم الأذهانَ للتفكّر والتأمل والتدبّر، حتى في الأشياء المألوفة في المحيط المباشر، مثل الإبل في بيئة العرب، أو في الإنسان ذاته. وتنفتح مساحة التفكّر في الخطاب القرآني من التمعّن في حشرات صغيرة وكائنات مجهرية ودقائق الأشياء، إلى إعمال النظر في آفاق سماوية مفتوحة.
أمّا الفكاك من الانبهار الساذج فيبقى مدخلا للفهم والتعلّم والممارسة على بصيرة، ولاستدعاء روح التمحيص والحس النقدي أيضاً. لم تأتِ قصة قائد عظيم مثل ذي القرنين محصورةً في مشهد سطحي لمشروع عملاق شيّده لقومٍ لا يكادون يفقهون قوْلا، فالقصة تمنح فهما تركيبيا للمشروع وإطلالة عمودية على مقوِّماته، ويكتشف المرء بالتحليل أنّ هذا القائد الفذّ أطلق طاقات العاجزين الكامنة فباشروا بأنفسهم تشييد سدّ عملاق تفاعلا مع اشتغال خبرته وقواه خطوةً خطوة، وهو قد أنجز معترفاً على الملأ بالفضل لله تعالى أن مكّنه في ذلك.
إنّ الانبهار بسلوكيات أمّة ما؛ ليس من شأنه أن يعين على فهمها واستلهام الدروس منها. لقد ظلّ العرب يدلِّلون على شغف غيرهم بالقراءة، بأمثلة من قبيل انهماك المتزاحمين في المواصلات العامة في بلدان أوروبية بمطالعة كتب محمولة في الجيوب. إنه مشهد أخّاذ في ظاهره الأفقي بالفعل؛ لكنه يرسم تساؤلات عدة في تشريحه العمودي. ألا يُحتمَل، مثلا، أن يكون فعل القراءة في هذا المقام انسلالا من نسق جامع في مقطورة متحركة على السكة، فيرتحل كلّ عبر نافذة كتابه إلى عالمه الخاص؟ أليس الوجه المحتجب بين دفّتي كتاب تعبيراً ضمنياً عن تمحوُر الفرد حول ذاته وشواغله وانكفائه عن محيطه ومن يَلونَه؟ ألا يبدو الانصراف إلى عوالم حوارية تستبطنها الرواياتُ المحمولة بالأيدي تعويضا مثاليا عن فتور التواصل اللفظي المباشر؟
وهل يسع القارئ في حواضر الشرق الانزواء إلى كتاب يحمله مع مواصلات بائسة وحياة صاخبة وضجيج المتحدثين من حوله؟ ألا يمثِّل فعل القراءة في المجال العام تعبيراً عن مساحة خصوصية فردية يقع احترامها؛ بخلاف مجتمعات يمنح الأفراد فيها أنفسهم حقّ اقتحام عالم أحدهم الخاص بالتلصص على اهتماماته وشواغله، وقد تندفع أسئلة فضولية لتعكير صفو القارئ؟ أما سؤال اللحظة فهو عن الهواتف الذكية وما أبقته من حالة كتب الجيب المفتوحة في المواصلات العامة الأوروبية؛ بعد أن باشرت المجتمعات خفض رؤوسها للأجهزة المحمولة.
من خصائص المثقف العناية بالنظرة العمودية إلى الأشياء، فلا يكتفي في سفره مثلاً بالنظرة الأفقية للمكان أو للمجتمع الذي يخالجه، فالرؤية السطحية لا تتجاوز الانطباعات الأولية العامة أو المظاهر الجلية التي تلفت انتباه الجميع، أو الانشغالات السياحية الساذجة بوجهات طريفة ومشاهد غرائبية لا تعبِّر عن الواقع عموما.
يحرص المثقف على النظرة المعمقة التي تباشر سبر الأغوار وتشريح المشهد وتتبُّع التفاعلات، فلا تكتفي بملاحظة ما هو ظاهر فوق السطح بل تفحص جذوره وتستقرئ أبعاده وتحلِّل أسبابه، مع السعي إلى الموضوعية والتجرد في هذا. ولا يصحّ بالنظرة العمودية أن تَسقُط في فخّ السبب الأوحد الذي يجعل للظواهر باعثاً فريداً لا ثاني له، ومن حوله تدور التأويلات النمطية.
قد يتشكل في النظرة الأفقية انطباع عام عن شغف بعض المجتمعات بالعمل، فتتعطّل النظرة العمودية عن أن تلحظ هيمنة الهواجس على هذه المجتمعات من خسارة موقع العمل والاندفاع بتأثير ذلك إلى الهامش الاجتماعي، علاوة على طبيعة النظام الاجتماعي القائم وانتفاء شبكات الأمان البديلة للأفراد بمفعول اضمحلال الأواصر التراحمية التقليدية.
وإن شَهِد زائرو اليابان طقوسَ تقديم الشاي التقليدي؛ فإنّ قراءتهم العمودية للمشهد ستكشف عن روح الانضباط الشديد التي تستبطنها هذه الطقوس، بما يتخللها من نزعة معيارية تجعل فتاة الشاي لا تسلك سبيلا مختصرة ومباشرة بين نقطتين في الرواق؛ بل تمضي في خطوط مستقيمة متعامدة حاملة جفنة الشاي بكفيها معاً وماضية برأس خفيضة وخطى منتظمة وصولا إلى الضيف.
تتجلى حالة الانضباط هذه في مواقف شتى تكشف عن جوانب من شخصية المجتمع الياباني التي تكبت المشاعر وتضبط الانفعالات. لا صرخات عبر النوافذ في حواضر اليابان إن اهتزّت الأرض من تحت الأقدام؛ بل رباطة جأش ظاهرة لا يُلحَظ مثيلها في مجتمعات أخرى. تكشف المشاهد التي توثّقها كاميرات المراقبة عن موظفين ينشغل بعضهم بالإمساك بشاشات الحواسيب درءاً لسقوطها بينما يتأرجح المبنى المكتبي بفعل هزة أرضية. ينبغي الإقرار بأنه لا غرائب في عالمنا، بل هي أشياء نجهل فهمها وحسب. ولن يمنح الاستقبال الغرائبي لهذا المشهد الياباني فهما لملابساته من شخصية المجتمع الذي يقتصد في الإفصاح الصوتي عن انفعالاته أساسا، ومن شأن الحكايات الغرائبية أن تُغفِل ثقة اليابانيين بأنظمتهم المتطورة في الأبنية المُقاوِمة للزلازل، علاوة على خبرتهم المديدة بالهزات الأرضية وكيفيات التعامل معها قياساً بشعوب لم تجرِّبها تقريبا.
تنمية الأخلاق الاجتماعية والمسلكيات الحضارية مسؤولية عظيمة، لكنها لا تنفكّ عن تنمية المجتمعات ذاتها والنهوض بشؤون الحكم والإدارة فيها |
لا تثريب على المقارنات البصرية السطحية بين الحواضر البشرية عندما تخرج بأحكام تعميمية عن "مدينة نظيفة" وأخرى ليست كذلك، أو "مدينة منظّمة بعناية" وأخرى فوضوية. لكنها النظرة الأفقية التي تنشغل بما يستلبها ابتداء، وقد لا تقوى على ملاحظة سِمات تُحال إلى خصوصيات البيئة، فهل يستوي سلوك من ينشأ في صحراء القيظ مع من ينعم بالنسيم تحت شجر وارف الظلال؟ وهل تجوز المقارنة بين بلاد تعصف برمالها الريح وأخرى لا تجد ما يعكِّر صفو هوائها أو يستولي بغُباره على أفنيتها؟ وهل تستقيم المفاضلة بين ريف الشجر والسهل والجبل؛ وبيئة ينشأ الناس فيها على ضفاف المستنقعات وقنوات الماء ومن أوحالها يطلبون لقمة عيشهم؟
جانب آخر من مسألة نظافة المدينة في مشهدها الأفقي؛ أنها لا تقتصر على الأخلاق الاجتماعية بل تتعدّاها إلى الأنظمة السارية وتقاليد الحكم والسلطة. فالمدينة غير النظيفة هي كناية عن إدارة قاعدة وسلطة قاصرة ودولة ضامرة، وهي تشي بضعف المجتمع وربما استقالته من القيام بأمره وتدبّر أحواله، زيادة على انعتاق الفرد من الشعور بمواطنته ضمن علاقة جدلية بين سلبية الفرد وإهمال النظام واستقالة الأطراف المجتمعية؛ حتى يستحيل الإهمال ثقافة عامة لا تحصل الشكوى منها.
أما ملمح التنسيق والتنظيم الذي يستوقف النظرة الأفقية للقادمين من مجتمعات لم تألفه؛ فإنّ قراءته العمودية قد تهتدي إلى ملابسات منها نزعة الضبط والتحكم الكامنة فيه. فمن يُبصِر حديقة منسّقة وأشجارا مصففة بدقة متناهية؛ من حقِّه الشك بوجود نزعة ضبط تحاول التحكّم في المحيط والهيمنة على الطبيعة، بعد أن سبق للمجتمعات ذاتها في أزمان خلَت أن خضعت للرهبة من "سلطان الطبيعة" عليها. ومَن تبهره أنظمة العمل وهي تمضي بدقة وتشتغل ببراعة؛ فقد يشغله هذا الانبهار عن إدراك سلطانها على الأفراد الذين يخضعون لها وينخرطون في تروسها كما فعلت الفاشية والنازية في مجتمعاتها بصفة آليّة استبعدت ضعفاء البنية وفتكت بذوي الإعاقة.
ليست النظرة العمودية ترفاً في هذا المقام أو في غيره؛ فتنمية الأخلاق الاجتماعية والمسلكيات الحضارية مسؤولية عظيمة، لكنها لا تنفكّ عن تنمية المجتمعات ذاتها والنهوض بشؤون الحكم والإدارة فيها، وأن يشعر أفرادها بالانتماء إلى المكان والحيِّز العام وبقدرتهم على إصلاح واقعهم وتطوير أحوالهم. ولا يكفي الركون هنا إلى الحث الإرشادي النمطي على السلوك الحسن، فتنمية الأخلاق الاجتماعية مثل الحفاظ على النظافة؛ تتحقق بصفة أفضل مع صلاح أحوال الإدارة والتسيير؛ كي لا ينتهي الحال إلى مدن غير نظيفة تتزاحم فيها الشعارات المألوفة: "حافظوا على نظافة مدينتكم!".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.