على الساعة العاشرة حسب توقيت بكين من صباح يوم الخميس هذا، فتحت صفحة الفيسبوك لأرصد أخبار البلاد والعباد، كنت أمسك بهاتفي الذكي بكل قلق وهلع. فمنذ فترة لم تغادر الأخبار فلك التشويهات الأخلاقية للنساء والإرهاب وطلقات نيران بين الأشقاء أو الخصماء العرب. أتابع الأحداث بعين يملئها الذهول أتوقف عند الذكرى السابعة للثورة السورية وأمسح دمعة سالت لحال البرلمان التونسي وما يصدر عن نوابه من انحرافات. في خضم السواد المخيم على هذا العالم الأزرق أقرأ خبر انتحار الكاتب والمبدع نضال الغريبي وهو شاب حالم وفي صدره حقول من الفنون وله شهادات علمية ويحظى بالكثير من القدرات لكنه لا يجد عملا قارا يضمن له الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم.
كان على نضال أن يموت شنقا بعد أن فشل في إيجاد فرصة عمل أو مكانا يمكنه من تأطير طاقاته، لم يكن نضال شابا مدللا أو متملقا بل كان يقول: "نحن لا نكتب من أجل المال بل نحن نرسم ما يخالجنا من مشاعر". ويضيف نحن ندون ما نحياه من مآسي ومن فرح. لقد عشق نضال الكتابة كما عشق بلاده تونس التي اختار أن يفارقها تاركا لعناته على وجه مدينة بات العيش فيها حكرا على طائفة معينة. أولئك الذين يدرس أبنائهم في أفخم المدارس وترتدي نسائهم أجمل الثياب ويصلي شيوخهم على الزرابي المرصعة.
هم أناس يختلفون عني وعن نضال. نحن من كُتب علينا أن نشد الرحال كل ظهيرة نحو المطعم الجامعي لنأكل بأبخس الأسعار وبأقل جودة ثم نركض وراء إحدى حافلات النقل العمومي لنصل بيتنا ونحن منهكون من المواصلات ومن ظروف الدراسة. نحن من لا ننطق اللغة الفرنسية جيدا، ترانا ننطقها بلكنة يقال أنها "عروبية" ويقصد بذلك غير متحضرة وجبلية. فهي لكنة تفشي عن بطاقة هوية صاحبها وأصله فتراها جبلية يحاول أصحاب الألسن الخشنة أمثالنا تطويعها ولكنها تصدح مشوهة أو عروبية كما يقول شعب الله الفرنكوفوني بتونس.
ها قد رحلت وأبحرت دون أي ندم. لأنني لو استمت في شعار بلادي وإن جارت عليا عزيزة، لكان مصيري الغرق وسط ذلك البئر الموحش |
لا زلت أذكر صوت صديقي حبيب القادم من قفصة الذي يحاول صاحبه جعله خافتا كلما جلسنا في مقهى قبالة المعهد العالي للعلوم الإنسانية وتعود الأسباب بأن هناك أمنيا أوقف حبيب للتثبت من أوراقه ومما يثبت أنه طالب مقيم في تونس العاصمة للدراسة، كنت أستمع لحديث صديقي وأقول نكاتا عن الممارسات الجهوية لسكان العاصمة تجاه بقية التونسيين. ونضال مثل حبيب وغيرهم من الشباب من يسكنون مدنا تغيب فيها المشافي والمركبات الجامعية ودور الثقافة ذات المرفقات الأساسية. هي مدنا ترتفع فيها نسب التلوث الطبيعي والتهميش ونسبة الجريمة والبطالة وكأن أهلها مواطنين من الدرجة الثانية في مقابل عاصمة يتمركز فيها كل شيء.
أمام السواد الحالك وغياب مرافئ الحياة في تلك المدن قرر نضال الرحيل نحو السماء كما قررت أنا ذات صيف، حين وقفت أمام ذلك البئر المتوسط بيت جدي القديم. أفكر في أن ألقي بنفسي في جوفه لأرتاح من أرق البطالة ومن إرهاصات مجتمعنا الذكوري الذي تثقل قواعده كاهل شابة مثلي. اقتربت من الخشبة المحيطة من البِئر نظرت إلى الأسفل، كان المشهد موحشا خيل لي إن هناك ثعابين تنتظرني وسط تلك المياه لتنهش من لحمي وتقضم من ضلعي وخيل لي أيضا بأن هذا العالم أوسع من بلادي. أدرت ظهري لتلك المياه الموحشة وسألت الله الرحيل دون عودة، ناجيت رب العالمين بأن يرحمني بهجرة من بلاد ظالم أهلها.
وها قد رحلت وأبحرت دون أي ندم. لأنني لو استمت في شعار بلادي وإن جارت عليا عزيزة، لكان مصيري الغرق وسط ذلك البئر الموحش، تاركة ورائي شهادات ومقالات ومجموعة قصصية محفوظة في مكتبي لأني لم أجد لها ناشرا. لو بقيت في تونس لاخترت ذلك الحبل لأشده على عنقي عله يريحني مما أواجهه يوميا من عنف ومن قهر. لو قضيت سنة إضافية تحت سقف البطالة والفساد المتفشي جميع المؤسسات لاخترت لقاء ربي لأخبره بما فعل دعاة الحداثة ودعاة الدين ومن يحملون اسم الله بي وبنضال الغريبي. نحن من نحلم بالخبز وبالحد الأدنى الإنساني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.