شعار قسم مدونات

خمس سنوات من الغربة!

blogs السفر مطار

كان الصباح مبهجاً في الوطن والشمس ساطعة والدفء يسري معلناً قدوم الربيع عندما طارت بنا الطائرة، لكن الشمس انقلبت إلى هواء جليدي لفح وجوهنا بقوة عند خروجنا من باب مطار جون كيندي لدى وصولنا إلى نيويورك، وأذكر كيف استقبلتنا الأشجار المتعرية التي تبدو شديدة الكآبة في يوم هو أصلاً يوم الربيع العالمي فأشكلت علينا الأمور.

 

قبل خمس سنوات بالضبط في آذار، غادرنا بلادنا بهدف الدراسة في أمريكا… وكان المفروض أن نبقى بضعة أشهر فقط لكننا مكثنا؛ فطالت الغربة وطال الغياب، وكان في نفوسنا أمل وتفاؤل كبير، مرت الأيام وازددنا حماسة كلما شعرنا بجمال الطبيعة وكيف انقلبت إلى ربيع حقيقي آخاذ حتى في أشد شهور الصيف حرارة، وفهمنا الفصول على حقيقتها.

 

لكن الشهور فيما بعد بدأت تشد على قلوبنا وتظهر جانبها القاسي، ليتحول شعورنا إلى حيرة شديدة لا تتوقف بين المكوث والمغادرة، وبين صعوبة الغربة رغم أريحية الحياة وسهولتها حتى على المقيمين بشكل مؤقت وبين العودة للعيش بالظروف الصعبة في البلاد.

 

في خمس سنوات غياب جسدي ونظري عن الحياة اليومية في بلادنا العربية، إلا من الأخبار والصور على مواقع التواصل الاجتماعي، تغيّرت في أعيننا بطريقة ما كلّ ملامح الوطن، وفي الإجازة القصيرة التي قضيناها في البلاد كانت صورة التغيير تتبلور وتتأكد.

 

تغيرت مشاعر صديقات لي تجاهي، فبدأن يرينني بصورة تلك التي لم تحقق ذاتها بعد الزواج فغيرها الحمل والولادة وغابت عن الساحة، وراحت بعضهن تلمزنني بكلمات عن تحقيق الطموح

تغيرت أشكال الناس فصرت أرى وجوههم أغمق لوناً وعيونهم أكثر همّاً وحياتهم أكثر صعوبة، وتبدلت صورة المجتمع كله فصارت "الناس بالبلاد تعبانين، يائسين"، والوضع بالعالم العربي "ذاهب من سيء إلى أسوأ"، فيتصل بنا صديق ويؤكد "الشباب كلهم يطلبون الهجرة… خليكم هناك اوعوا ترجعوا".

 

تغيّرت ملامح البنات في خمس سنوات، صِرْنَ أكبر شكلاً وملامحهن صارت مثل بعضها في الصور… صرن كثيرات ومتشابهات جدا على انستغرام وإخوانه… فتغير مفهومهن عن الإنترنت برمته. تغيرت طريقة الحجاب تماماً فصارت الرقاب والسيقان مباحة للناظرين مع غطاء خفيف على الرأس يسمى "توربان" وصار المكياج مهنة جديدة تضاف جنباً إلى جنب في السيرة الذاتية مع "بكالوريوس أدب عربي"… تغير وجه الفيس بوك كله… فصار طافحاً بالصور: بنات وأطفال وشباب وشابات يشبهون المغنيين والمغنيات "هل صار شباب الوطن كلهم مغنين وممثلين؟"… صور الجميع بلا استثناء صارت هناك بعدما كنا نتحرج ونتردد قبل أن ننشر نصف وجه من وجوهنا…

 

تغيرت علاقاتي مع الآخرين وفقدتُ نصفها بينما صار لدي علاقات جديدة مختلفة كلياً، تشبه غربتي أكثر. تغيرت مشاعر صديقات لي تجاهي، فبدأن يرينني بصورة تلك التي لم تحقق ذاتها بعد الزواج فغيرها الحمل والولادة وغابت عن الساحة، وراحت بعضهن تلمزنني بكلمات عن تحقيق الطموح وكيف أنهن بقين كما كن قبل الزواج وبعده…

 

تغيرت أنا خلال خمس سنوات، وتغيرت نظرتي كاملة تجاه الدنيا، فكما تغيرت ملامحي بسبب الغربة والحمل والولادة فقد تغيرت معها نفسيتي ورؤيتي للكون وللأشياء المادية، فالغربة أنهت تعلقي بالأشياء المادية التي أملكها والمظاهر التي كنت أكرمها… فلا شيء ذو قيمة حقيقية سيبقى فعلاً معي سوى عائلتي الصغيرة… فهي التي أصبحت وطني وعالمي في غربتي. كثير من الأشياء صرت أراها من بعيد جميلة في بلادي، الناس ونشاطها وتطورها بطريقة بديعة نحو الأفضل، الأعمال الجميلة التي تنتج عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتبدو جذابة وواضحة الأهداف وجميلة المحتوى بكل أشكالها المصورة والمكتوبة.

 

وكثير من الأشياء الأخرى بتّ لا أستطيع النظر إليها إلا بحزن ويأس وبفقدان أي أمل في تغييرها… الحالة السياسية المحتقنة المعقدة، الوضع الاقتصادي البائس، الحروب التي لا تبدو لها نهاية، ورائحة الموت التي تصلني بقوة ولا تفارق تفكيري اليومي وتنسيني متعة الأشياء هنا.

 

تبدلت طريقة التفكير في بلادي كثيراً، فلم يعد الشباب يخافون فعلياً من التغيير… وصار لديهم قوة حقيقية قادرة على خلق الفرص من اللاشيء… أذكر تماماً دهشة دكتورنا العراقي عندما سألني عن السوشال ميديا في العالم العربي وهو الغائب منذ سنوات بعيدة عنه، فتفاجأ عندما قلت له إن مئات من الشباب والبنات يجدون وظائف وأعمال ويشغّلون أنفسهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي فعلاً.

 

تغيرت رؤيتنا المستقبل. وصار علينا أن نغير الخطط كلها، فلا الخطة ب ولا ج نجحتا، وعلينا التفكير ليس خارج الصندوق بل خارج الحدود كلها
تغيرت رؤيتنا المستقبل. وصار علينا أن نغير الخطط كلها، فلا الخطة ب ولا ج نجحتا، وعلينا التفكير ليس خارج الصندوق بل خارج الحدود كلها
 

خرجنا من بلادنا قبل خمس سنوات وكان محمد مرسي قد انتخب شرعياً في مصر بانتخابات حقيقية لم نشهدها من قبل في بلداننا، وبعد أشهر قليلة من وصولنا إلى أمريكا انقلب عليه الجيش فكان حدثاً أثر بالفعل على رؤيتنا للحياة في العالم العربي، فلم يعد الأمل حقيقة نشعر بها، وراح انتظارنا بتبدل الحالة السياسية إلى الأفضل هباء منثوراً.

 

واليوم يبدو كل شيء ذاهب ناحية اللا انتهاء، الحال نفسه متجمد على انهيارات وإفلاسات وحروب ودم وخلافات عربية عربية وتحالفات عربية غربية ليستمر القتل والتشريد واللجوء والهروب والهجرة، وتبدأ في مصر فترة انقلابية جديدة مع انتخابات رئاسية كاذبة وكأن خمسة أعوام لم تمر، وكأنه يؤكد علينا من جديد: "أوعوا ترجعوا..".

 

تغيرت رؤيتنا المستقبل… وصار علينا أن نغير الخطط كلها، فلا الخطة ب ولا الخطة ج نجحتا، وعلينا التفكير ليس خارج الصندوق فقط بل خارج الحدود كلها، صار الوضع حرجاً حقاً اليوم بكل الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما يجعل تفكير أي شخص بالعودة إلى بلاده ضرباً من الغباء الشديد، فكيف سنجتاز هذا الاختبار؟

 

تغيرت ملامحي في خمس سنوات؛ فأصبحت أكثر جدية وأقل اكتراثاً بعد أن كنت دائمة الابتسام وشديدة التركيز، وتبدلت أفكاري الحالمة بأفكار واقعية تضع أولويات الظروف على رأس القائمة، تضع الأحلام والطموحات محل دراسة وتغيير شامل، تبدأ بالمكان ولا تشمل الزمان… تمحو الماضي وتفكر في بدائل مستقبلية… "خُمسية جديدة؟" ربما… لكنها مؤقتة بشكل أكيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.