مع اشتداد حدة الصراع بين قوى إقليمية ودولية في العديد من المناطق الساخنة في الشرق الأوسط وسعي كل طرف من هذه الأطراف إلى توسيع رقعة نفوذه السياسي والاقتصادي والعسكري، بدأ يأخذ هذا الصراع مسارا آخرا في سباق مكشوف المعالم للسيطرة على موانئ الشرق الأوسط والقرن الأفريقي لما تشكله من أهمية استراتيجية باعتبارها الشريان الرئيسي لحركة الملاحة الدولية والتجارة العالمية.
وتعتبر شركة "موانئ دبي العالمية"، الدراع الملاحي لدولة الإمارات العربية المتحدة، أحد أكبر مشغلي الموانئ في العالم، حيث تشرف على إدارة أكثر من 77 ميناء عبر العالم، من بينها ميناء "جبل علي" بدبي الذي يعتبر أكبر ميناء تجاري في الشرق الأوسط لما له من دور وإسهام في إبراز إمارة دبي خاصة ودولة الإمارات العربية المتحدة بشكل عام كمركز أعمال مالي عالمي بامتياز. كل هذا جعل التوجه جيواستراتيجي الإماراتي خلال العقد الأخير تتركز على إبقاء دبي بعيداً عن منافسة محيطها وذلك بتحجيم الموانئ التي تدخل في إدارتها على مدى سنوات طويلة.
لم ينحصر طموح بكين في الحصول على منفذ استراتيجي بباكستان فقط، بل امتد ذلك إلى البحر الأحمر، حيث افتتحت بكين مؤخرا قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي لتصبح بذاك رقما صعبا |
وتعتبر اتفاقية حصول شركة "موانئ دبي" الحكومية على حق إدارة وتطوير ميناء عدن اليمني لمدة 100 سنة في عام 2008 أولى الخطوات في هذا الاتجاه قبل أن يتم فسخ هذه الاتفاقية بعد خلع الرئيس اليمني السابق محسن صالح بعدما تبين أن الهدف الرئيسي للإماراتيين من وضع يدهم على ميناء عدن هو إبطاء وثيرة تطويره، كيف لا وهو من أخطر المنافسين لميناء دبي. إلا أن الوقت لم يمر طويلا قبل أن تعاود الإمارات، تحت غطاء تحالف "إعادة الشرعية" بقيادة السعودية، وضع يدها على موانئ جنوب اليمن من المكلا شرقاً وحتى عدن غرباً.
ولعل التواجد الإماراتي على الخريطة الملاحية للمنطقة لم ينحصر فقط في اليمن بل امتد إلى منطقة القرن الأفريقي، حيث حصلت أبوظبي على عقد تسيير وتطوير عدة موانئ لعل أبرزها ميناء "عصب" الإريثيري وميناء "بربرة" في "جمهورية أرض الصومال" الغير معترف بها دوليا، دون نسيان محطة "دوراليه" في جيبوتي التي تعتبر أكبر محطة حاويات في إفريقيا قبل أن تستولي عليه حكومة جيبوتي متهمة شركة "موانئ دبي العالمية" بمحاولة ارشاء رئيس هيئة الميناء والمنطقة الحرة في جيبوتي قبل أن تتحول القضية إلى صراع قضائي بين الطرفين على طاولة محكمة التحكيم الدولية بلندن. فيما ربطت بعض الدراسات الجيواستراتيجية تدخل الإمارات في الشأن السياسي المصري ومشاركتها في إسقاط الرئيس محمد مرسي بمشروع تطوير قناة السويس الذي كان على رأس الوعود والمشاريع المخطط تنفيذها والذي كان سيشكل تهديدا حقيقيا على دبي كمركز مالي عالمي.
وغير بعيد عن الإمارات، بدأت باكستان بتنسيق وتمويل وتنفيذ صيني قطري في تطوير وتوسعة ميناء "غوادر" الباكستاني والبنية التحتية المرتبطة به والمتمثلة في ميناء جديد خاص بالحاويات وفنادق جديدة وأكثر من 2700 كيلومتر من السكك الحديدية السريعة وفائقة السرعة. ويشكل هذا المشروع نقطة تقاطع للمصالح الاستراتيجية للدول الثلاث، حيث ترى فيه الصين جزءا لا يتجزأ من مشروعها العملاق "الحِزام والطريق" والذي تسعى من خلاله الى جعل "غوادر" بوابتها الرئيسة البحرية عبر آسيا الوسطى ما سيساهم في تخفيف الضغط على سواحلها الشرقية وخاصة مضيق "ملقا" الذي يعتبر الشريان الرئيسي لتجارتها الخارجية وتقليل الوقت المستغرق لنقل بضائعها عبر آسيا الوسطى.
في حين ترى باكستان في تطوير ميناء "غوادر" فرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية كبيرة لعل أبرزها توجيه ضربة ملاحية لجارتها الهند، كيف لا وميناء "غوادر" لا يبعد عن ميناء "تشابهار" الهندي سوى ب70 كيلومتر والذي يعتبر بدوره أحد اهم المراكز الملاحية بالمنطقة. في حين يربط مراقبون مشاركة الدوحة في تمويل هذا المشروع بصراعها المفتوح مع دول الحصار بقيادة الإمارات السعودية، حيث يرى القطريون في تعزيز دور ميناء "غوادر" بالمنطقة إضعافا للمكانة الاستراتيجية لدبي وتهديدا حقيقيا لها.
وبالعودة الى تحركات بكين الملاحية بالمنطقة، فإن طموح هذه الأخيرة لم ينحصر في الحصول على منفذ استراتيجي بباكستان فقط، بل امتد ذلك إلى البحر الأحمر، حيث افتتحت بكين مؤخرا قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي لتصبح بذاك رقما صعبا على خريطة أهم ممر ملاحي تجاري في العالم.
ترى إسرائيل في البحر الأحمر جزءا لا يتجزأ من منظومتها الأمنية القومية لأهميته الاستراتيجية حيث يعتبر شريان تجارتها الخارجية مع دول شرق آسيا وإفريقيا عبر ميناء إيلات |
بالتوازي مع وجودها العسكري الرسمي أو الغير رسمي في العديد من دول الشرق الأوسط، تسعى إيران الى تعزيز وجودها الملاحي في المنطقة خاصة بعد سيطرتها على مضيق "هرمز". ويعتبر مضيق باب المندب أهم الأهداف الملاحية التي تسعى إيران لوضع يدها عليه لأهميته الاستراتيجية القصوى باعتباره أهم خطوط التجارة الدولية بشكل عام وتجارة النفط من دول الخليج إلى العالم بشكل خاص.
ويرى مراقبون أن إيران نجحت ولو بشكل جزئي في السيطرة على مضيق باب المندب بعدما تمكن الحوثيون، المدعومين من أكبر دولة شيعية في العالم، من السيطرة على ميناء الحديدة أكبر موانئ اليمن. ولعل مطامع إيران الملاحية لم تنحصر فقط في البحر الأحمر بل تتحدث تقارير غربية وإسرائيلية عن طموح إيراني لجعل مدينة اللاذقية السورية بوابتها الرئيسية على البحر الأبيض المتوسط حيث تطمح إيران من خلال توقيع اتفاقيات "إعادة إعمار سوريا" مع نظام بشار الأسد الى إنشاء ميناء وقاعدة عسكرية بحرية على السواحل السورية.
وعلى نفس المنوال، ازداد اهتمام تركيا أكثر فأكثر بمنطقة القرن الأفريقي، حيث حصلت في عام 2014 على حق إدارة وتشغيل ميناء "مقديشو" في الصومال مقابل تخصيص أكثر من نصف عائداته السنوية لخزانة الحكومة الفيدرالية الصومالية. التحركات التركية لم تنحصر فقط في الصومال، بل توسعت شمالا في السودان حيث حصلت أنقرة على حق تطوير وإدارة جزيرة "سواكن" السودانية ذات الأهمية الاستراتيجية والتي تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر وهي واحدة من أقدم الموانئ في إفريقيا، دون إهمال الدلالة التاريخية لهذه الجزيرة التي كانت تعتبر علامة ملاحية بارزة في عهد الخلافة العثمانية.
رغم انتشار العشرات من قواعدها العسكرية في العديد من دول الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، إلا أن الوجود البحري للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة ينحصر فقط في قاعدتين عسكريتين بحريتين بالبحرين وجيبوتي. ويوجد بالمنامة مقر الأسطول البحري الأميركي الخامس الذي يضم حاملة طائرات وعددا من الغواصات الهجومية والمدمرات البحرية. في حين تشكل قاعدة "ليمونيه" العسكرية البحرية بجيبوتي منفذا أمريكيا مباشرا على مضيق باب المندب، حيث تعتبر نقطة انطلاق عمليات مراقبة حركة الملاحة الدولية بالبحر الأحمر وتوجيه ضربات عسكرية لجماعات إسلامية بالقرن الأفريقي لعل أبرزها حركة "الشباب المجاهدين" في الصومال والتي ترى فيها واشنطن تهديدا حقيقيا لأمنها القومي.
ترى إسرائيل في البحر الأحمر جزءا لا يتجزأ من منظومتها الأمنية القومية لأهميته الاستراتيجية حيث يعتبر شريان تجارتها الخارجية مع دول شرق آسيا وإفريقيا عبر ميناء إيلات، الأمر الذي جعل إسرائيل تقوم باستئجار أرخبيل جزر "دهلك" الإرتيرية ذات الموقع الاستراتيجي الهام في مضيق باب المندب حيث أقامت عليها قاعدة عسكرية بحرية تعد هي الأكبر لدولة الاحتلال خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يجعل خطوط الملاحة عبر هذا الممر الحيوي تحت رحمة السلاح العسكري البحري والجوي الإسرائيلي خاصة وأن إسرائيل تمتلك قواعد عسكرية جوية في جزيرتي حالب وفاطمة المطلتين على باب المندب.
بعد تدخلها العسكري في سوريا، بدأت موسكو تجني ثمار تثبيتها لنظام بشار الأسد بعد أن كان على شفا الانهيار، ولعل أبرز هذه المكاسب هو إقامة قاعدة بحرية عسكرية دائمة بميناء "طرطوس" السوري مع شروط تفضيلية خاصة، الشيء الذي يراه العديد من المراقبين تعزيزا لوجود ونشاط الأسطول البحري الروسي في البحر الأبيض المتوسط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.