شعار قسم مدونات

ما بعد عمليات "غصن الزيتون" في عفرين

مدونات - عفرين

يبدو الجيش التركي مصرا على التقدم أكثر في العمق السوري كلما سنحت له سانحة بذلك، مدعوما بمؤازرة رسمية وشعبية منقطعة النظير، وذلك "لتطهير الحدود التركية من المنظمات الإرهابية في خطة تعتمد على المبادرة قبل ردة الفعل" كما يقول المسؤولون الأتراك. فقد شهدت المناطق التركية المتاخمة للحدود السورية حالة من عدم الاستقرار بسبب هجمات التنظيمات المسلحة، وخاصة الكردية منها المدعومة غربيا؛ كما يقول الأتراك، فكان لزاما محاولة الرد على تلك التهديدات فجاء قرار تدخل الجيش التركي، وانتهت سياسة مراقبة الوضع من بعيد التي ظلت سيدة الموقف منذ اندلاع الثورة السورية، باستثناء عمليات أو مناوشات بسيطة لم تصل حد التدخل العسكري إذا ما استثنينا من ذلك عملية "درع الفرات".

 
وجدت إذا تركيا مندوحة للتدخل العسكري وصد الهجمات المتتالية لمناوئها من قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والمليشيات الموالية له في ظل عجز النظام السوري البين عن بسط السيطرة على أراضيه بعد أن ظلت قبلة وساحة لأطراف إقليمية ودولية وجدت في الساحة السورية ملجأ لتصفية حساباتها بأساليب فجة موغلة في الأنانية على حساب الشعب السوري وأمنه ووحدة أرضه، دون أتعير لذلك أية اعتبارات.

  

ساعة الصفر

لم يكن أمام تركيا أمام هذا الوضع المتأزم سوى الذود عن حماها والتدخل حماية لأمنها وأمن مواطنيها، يضاف لذلك ما عانته تركيا في السنوات الأخيرة من هجمات دموية استهدفت العمق التركي، أرجع المسؤولون الأتراك مصدرها للجانب السوري المتأزم داخليا، وتخوش تركيا من قيام كيان كردي في سوريا، يدعم ذلك ما أصبح يروج له منذ فترة من احتمالية تقسيم سوريا واقتطاع جزء من أرضيها لصالح الأكراد العدو اللدود والتاريخي للأتراك.
 

يأمل الكثير من الأتراك أن تكون علميات عفرين تمهيدا لعودة الأمن للمناطق الحدودية وهو أمر بدأ يؤتي أكله بالفعل، على أن تمهد العلمية لاحقا لبدء عودة اللاجئين السوريين لمواطنهم الأصلية

وللوقوف في وجه هذا الفرضيات كان قرار التدخل جاهزا وحانت ساعته، ولم يعد هناك وقت ينبغي تضييعه في ظل تسارع الأحداث وسخونتها، فاتخذ القرار وكانت البداية بمنطقة عفرين، وجد الجيش التركي حينها سندا محليا مهما كان له كبير الأثر على العمليات الميدانية ألا وهو الجيش الحر، وكان بحكم التجربة الميدانية رأس الحرب في العلمية في بدايتها، كما أن ذلك منح الجيش الحر دفعة معنوية خصوصا بعد الضربات الموجعة التي تلقها من النظام من جهة وبعض الفصائل المسلحة المناوئة له من جهة أخرى، بعد أن ظل حاملا لمشعل الثورة في بواكيرها؛ فجاء التدخل التركي ليمنحه جرعة أمل، ويعيده لواجهة الأحداث مجددا.
 
ظلت تركيا ترفض بشدة قيام أي كيان كردي في المنطقة، وكان إجراء استفتاء دستوري أواخر سبتمبر/أيلول من العام الماضي لانفصال إقليم كردستان العراق القشة التي قصمت ظهر الهدوء التركي، واستبقت الاستفتاء بالتهديد والوعيد والحصار، وهو ما كان له كبير الأثر في تأجيل "الحلم الكردي" إلى أجل غير مسمى؛ قبل معاودة الكرة مجددا بأساليب وأزمنة وأمكنة مختلف ربما.

 

تدرك تركيا جيدا خطورة الجانب القومي خصوصا المتعلق منه بالأكراد الذين يشكون قرابة ربع سكانها؛ كما أن أي محاولة من هؤلاء لشق "عصا الطاقة" ستقوض كل الجهود التركية الساعية لإخماد أصواتهم الانفصالية والحد من الدعم الشعبي لمنظمة "حزب الكردستاني" الذي يحتفظ الأتراك بتاريخ دموي مشهود معه، مما أدى إل تصنيفه من حكومة أنقرة على قائمة المنظمات الإرهابية، والشيء نفسه ينطبق على باقي التنظيمات الكردية في الإقليم بشكل عام، حيث تعتبرها تركيا خلايا وفروعا له، خاصة حزب الاتحاد الديمقراطي وفصليه المسلح "وحدات حماية الشعب".

 

أهداف معلنة

ما فتئ المسؤولون الأتراك وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان يؤكدون أن عمليات عفرين تستهدف "تطهير المناطق الحدودية من الإرهابيين وحفظ ثغور تركيا، وليست لها أي أهداف سوى ذلك، مما سيؤدي لعودة اللاجئيين إلى مواطنهم الأصلية بعد التحسن الأمني المأمول من العلمية العسكرية" كما ينفي هؤلاء المسؤولون دوما "أي نية للبقاء في سوريا أو الطمع في أراضيها".

  undefined

 

تحظى العمليات العسكرية في الداخل السوري بمتابعة حثيثة من الشارع والإعلام التركيين، وتخصص المنابر الإعلامية مساحات واسعة من بثتها وتغطياتها لأخبار العلميات ومستجداتها، دون إهمال إبراز جوانب أخرى تتماهى مع الشعار المعلن للعلمية: "غضن الزيتون" وذلك من خلال إبراز دور المنظمات الإغاثية التركية أهلية كانت أو حكومية، باعتبار أن الجانب العسكري في العملية ليس سوى واحد من جوانب أخرى ينتظر أن تكون حصيلة إجمالية لنتائج "غصن الزيتون".

  
يأمل الكثير من الأتراك أن تكون علميات عفرين تمهيدا لعودة الأمن للمناطق الحدودية وهو أمر بدأ يؤتي أكله بالفعل، على أن تمهد العلمية لاحقا لبدء عودة اللاجئين السوريين لمواطنهم الأصلية التي هجروا منها قسرا بسبب الفوضى العارمة التي كان النظام السبب الرئيسي فيها، كما يرى متابعون. ومعلوم أن تركيا تدفع جزءا كبيرا من فاتورة الثورة السورية حيث كانت البوابة التي وجدها السوريون مأوى؛ وفتحت لهم الحدود وتم تجهيز مخيمات اللجوء لصالحكم، ووصل عدد هؤلاء قربة ثلاثة ملاين لاجئ، وكان العبء الأكبر لإعالة هؤلاء ملقى على الموازنة التركية ومنظمات المجتمع المدني في البلد، في ظل تقاعس العديد من المنظمات الدولية والأطراف الإقليمية عن المساهمة في مساعدة هؤلاء رغم الالتزامات بذلك.

 

ما بعد عفرين
يرى العديد من المتابعين أن أي تراجع في العمليات العسكرية سيكون له الأثر السلبي على استقرار الحدود مستقبلا والعودة بالتالي إلى المربع الأول

بدأت عمليات "غضن الزيتون" بشكل فعلي نهاية يناير الماضي وذلك من أكثر من محور لتحرير منطقة عفرين من بعض التنظيمات الإرهابية كما تقول تركيا وعلى رأسها تنظيما: ""ب ي د/بي كا كا" وحققت تلك العمليات اليوم أول الأهداف التي بدأت من أجلها وذلك بإعلان السيطرة الكاملة على منطقة عفرين ورفع العلم التركي فوق سماء المدينة و"إعلان تطهيرها من الإرهابيين" كما جاء في بيان لهيئة الأركان التركية. لكن هل ستكون تلك الخطوة بداية فعلية لإنهاء العلمية؟ الجواب سيكون بالنفي بكل تأكيد.

 
شكل الخبر بشارة للأتراك خاصة أنه جاء موافقا ليوم 18 مارس/آذار "عيد شهداء القوات المسلحة التركية" كما هو متداول محليا، وموافقته لهذا اليوم تشكل نصرا معنويا آخر للجيش التركي، بيد أن إعلان السيطرة على عفرين كان يحمل في طياته أبعادا أخرى؛ حيث هتف الجندي الذي تولى رفع العلم التركي على مبنى الحكم في عفرين قائلا: "هذه هدية إلى كافة شهدائنا والأمة التركية بأسرها…" وفق ما نقلته وكالة الأناضول.

 
المتتبع لــ "أكرونولوجيا" الأحداث في عفرين يدرك دون عناء أن العلميات التركية ستتوسع أكثر في العمق السوري، وأن عفرين ليست سوى بوابة أول حصن من الحصون التي يجب "تطهيرها" من القوات المناوئة لتركيا ذات الصبغة الانفصالية؛ وتقدر الإحصاءات عدد هذه القوات والفصائل المؤازرة لها بقرابة خمسين ألف عنصر، أعلنت تركيا عن مقتل المئات منهم خلال علميات "غصن الزيتون" بينما فرد المئات من هؤلاء إلى العمق السوري استعدادا لما هو قادم في ظل تواتر أخبار عن تسليح هؤلاء من طرف عدة قوى غربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم يعد خافيا تأثيرها الميداني على الأحداث، ومساندها لــ "الإرهابيين" وفق التوصيف التركي.

  undefined
 

لا يبدو أن علميات "غضن الزيتون" ستكون كسابقتها "درع الفرات" فالأتراك أدركوا ـ ولو متأخرين- ألا مناص من المواجهة، ولم يعد النأي عن المشهد بالأمر المجدي خصوصا في ظل تنامي قوة الأكراد في سوريا بعد الحد من علميات "بي كا كا" في الداخل التركي. لم يتأخر المسؤولون الأتراك في الإعلان عن نياتهم المستقبلية بعد إعلان تحرير عفرين؛ فقد أكد نائب رئيس الوزراء التركي بكر بوزداغ أن قوات عملية "غصن الزيتون" دحرت الإرهابيين من مدينة عفرين، لكن المهمة لم تنته بعد" وفق تغريدة له على حسابه في موقع تويتر.

يرى العديد من المتابعين أن أي تراجع في العمليات العسكرية سيكون له الأثر السلبي على استقرار الحدود مستقبلا والعودة بالتالي إلى المربع الأول، لكن أي تقدم أيضا ينبغي أن يكون مشوبا بالحذر وعدم المغامرة والاندفاع الزائدين، وبالتالي لا مناص من ترك يد على الزناد، وأخرى دبلوماسية تسعى لرفع الغطاء عن أي دعم خارجي محتمل للقوات التي تحاربها تركيا، وحينها قد تخلو الساحة للقوات التركية وتحقق ما سترسمه سياسات أنقرة مستقبلا، بيد أن أي تدخل قد يطيل أمد مكث الجيش التركي في سوريا سيلقى معارضة كبيرة لإقليمية ودولية، وهو ما يحتم على أنقرة نفسا تفاوضيا وعسكريا طويلا.

 

وفي المحصلة يعتبر الأتراك علميات "غضن الزيتون" قد حققت حتى الآن الكثير من الأهداف التي رسمت لها، وتمكنت من دحر التهديدات الأمنية التي ظلت تحدق بالبلد خلال الفترة الماضية، لكن الطموح التركي يبدو أكبر من ذلك بكثير، وتبدو الشهية مفتوحة للتقدم أكثر كلما كانت الظروف مواتية لذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.