إذن المال والقصر والأسرة ليست غايات أخيرة، إنما الغاية الأخيرة له أن يكون سعيداً، فهل للناس جميعاً غاية أخيرة واحدة يطلبونها أو بعبارة أخرى ينبغي أن يطلبوها؟ وما هي؟ عن كلّ هذا يبحث علم الأخلاق.. فهو علم يوضح معنى الخير والشر، ويُبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضاً، ويشرح الغاية التي ينبغي أن يقصدها الناس في أعمالهم، ويُنير السبيل لعمل ما ينبغي.
يُؤخذ مما ذكرنا أن علم الأخلاق يبحث عن أعمال الناس فيحكم عليها بالخير أو الشر ولكن ليست كل الأعمال صالحة لأن يحكم عليها هذا الحكم، فكثير من الأعمال لا يصح أن يقال: إنها خير ولا شر، ولبيان ذلك نقول: تصدر من الإنسان أعمال غير إرادية كالتنفس ونبض القلب ورمش العين عند الانتقال فجأة من ظلمة إلى نور، فهذه الأعمال تسمى (أعمالاً غير إرادية)، وهي ليست من موضوع علم الأخلاق، فلا نحكم عليها بخير ولا شر، ولا يقال: إن الإنسان خيّر لأن قلبه ينبض نبضاً حسناً، أو معدته تهضم هضماً جيداً، كما لا يقال: إنه شرير لأن قلبه لا ينبض كما ينبغي، ومعدته لا تهضم هضماً حسناً، لأنه لا دخل لإرادة الإنسان في ذلك، وكل إنسان يريد أن ينبض قلبه وتهضم معدته على أحسن وجه ولكن إرادته لا أثر لها في ذلك.
التبعة لا تكون إلا إذا وجدت الإرادة، فما لا دخل لإرادة الإنسان فيه لا يسأل عنه، ولا يلام عليه، ولا يمدح أو يذم من أجله |
وتصدر من الإنسان أعمال بعد التفكير في نتائجها وإرادة عملها، كمن يرى أن بناء مستشفى في بلده ينفع قومه ويخفف مصائبهم فيتبرع بالمال لبنائها وإدارتها، وكمن يُقدم على قتل عدوه فيفكر في وسائل ذلك ثم ينفذ ما عزم عليه، فهذه الأعمال تسمى "أعمالاً إرادية" وهي موضوع علم الأخلاق، فيحكم عليها بأنها خير أو شر، وعلى فاعلها بأنه خيّر أو شرير .
وهناك نوع من الأعمال بين الإثنين، فله شبه بالأعمال الإرادية وله شبه بالأعمال غير الإرادية، فهل هو من موضوع علم الأخلاق؟ كما في الأمثلة الآتية:
1- من الناس من يأتي أعمالاً وهو نائم، فلو أن أحدهم أشعل ناراً بمنزله وهو في هذه الحالة، أو أطفأ ناراً كادت تحرق المنزل، فهل هذا عمل إرادي يحكم عليه بأنه خير في الحالة الأولى وشر في الثانية؟
2- قد يُصاب إنسان بداء النسيان فيترك عملاً كان يجب عليه عمله في وقته، أو يخلف موعداً وعده.
3- قد يستغرق الفكر عمل كمن يشتغل بحل مسألة هندسية، أو يقرأ في رواية لذيذة، فيلهيه ذلك عن درس واجب أو عمل مفروض.
هذه الأعمال كلها.. بالتأمل فيها.. نرى أنها أعمال غير إرادية، فليس النائم في المثال الأول قد تعمد إحراق المنزل وقدّر نتائجه، لذلك لا يحكم على عمله هذا بأنه خير أو شر، لأنه لا إرادة له، ولا يسأل عنه، وإنما يسأل عنه ويحاسب عليه إذا كان يعلم أنه مصاب بهذا المرض وأنه يأتي أعمالاً خطرة وهو نائم، ثم لم يحتط وقت صحوه وانتباهه لما قد يحصل عند نومه، بأن يحول بين نفسه والنار وأدواتها، فهو مسؤول خلقياً عن عدم الاحتياط وقت الانتباه، لأنه شيء إرادي، كان في إمكانه أن يحتاط له ثم لم يفعل.
وكذلك الشأن في الأمثلة التي ذكرناها ونحوها، فلو أنك نمت وتركت النار مشتعلة في موقد ثم طارت شرارة أحرقت المنزل لا يسمع لقولك: "إن هذه ليست خطيئتي ولست قادراً أن أمنع النار أن ترمي بالشرر وأنا نائم" إذ يقال لك: "إنك عالم أنك ستنام، وقد أردت النوم، وعالم أن النار مشتعلة، وكان في إمكانك أن تحتاط وقت انتباهك بإطفائها، وعالم أنك ستكون في حالة عدم شعور، فكان ينبغي أن تستعد وقت شعورك لما قد يطرأ وقت عدم شعورك، وذلك بإطفاء النار، فنحن إنما نحكم عليك بالخطأ والصواب بالنظر إلى عدم الاحتياط، وهو شيء إرادي".
ومثل ذلك الإتيان بعمل مع الاعتذار بجهل النتائج التي تصدر عنه.. وكمن كان يعلم من نفسه أنه حاد الطبع غضوب، لا يضبط نفسه عند سماع كلمة تؤلمه، فيسب أو يضرب من غير شعور، فلو أنه غشى الجمعيات التي هي مظنة لإثارة غضبه وأتى بما يستنكر كان مسؤولاً عن عمله، لمَ ذكرناه وكذلك الأعمال التي أعتيدت حتى صار صاحبها يأتيها من غير إرادة، فإنه يسأل عنها، لأن الاعتياد نتيجة عمل إرادي متكرر، فلا يعذر طالب بأنه إنما يدخن لأن التدخين أصبح عادة متمكنة منه، لأنه على فرض تمكنه كما يدعي، إنما انغمس في هذه العادة بعد أن دخن جملة مرات وهو حر مختار مريد حتى صارت عادة، وهكذا.
والخلاصة: أن موضوع علم الأخلاق هي الأعمال التي صدرت من العامل عن عمد واختيار، يعلم صاحبها وقت عملها ماذا يعمل، وكذلك الأعمال التي صدرت لا عن إرادة ولكن كان يمكن تجنب وقوعها عندما كان مريداً مختاراً، فهذان النوعان يحكم عليهما بالخير أو الشر وأما ما يصدر لا عن إرادة وشعور، ولا يمكن تجنبه في حالة الاختيار، فليس من موضوع علم الأخلاق.
الأعمال التي ليس في طاقة الإنسان التحرز عنها والتي غلب فيها على نفسه لا يُسأل عنها، كأعمال المجنون والمغمى عليه، وكذلك أعمال المكره |
مما تقدم نفهم أن التبعة لا تكون إلا إذا وجدت الإرادة، فما لا دخل لإرادة الإنسان فيه لا يسأل عنه، ولا يلام عليه، ولا يمدح أو يذم من أجله، فلا يمدح الشخص لطوله، ولا يذم لقصره، من الناحية الأخلاقية، ولا يقال: إنه خيّر لأنه جميل الوجه ولا شرير لأنه قبيحه، لأن هذه الأشياء وأشباهها لا عمل لإرادة الإنسان فيها. وليس يلام الإنسان على سوء صحته، ولا يمدح على حسنها إلا بمقدار ماله من أعمال إرادية في ذلك، كسيره في حياته على نظام صحي أو إهماله ذلك.
كذلك لا يُسأل الإنسان عما لم يمنح من ملكات عقلية أو فنية، فالناس لم يخلقوا جميعاً وعندهم استعداد بقدر واحد للرياضة أو للفنون الجميلة، فمن لم يخلق رياضياً لا يكون مسؤولاً عن ضعفه الرياضي، إنما يكون مسؤولاً إذا كان عنده الاستعداد الكافي وكان ينقصه المران والجدّ ثم لم يمرن ولم يجد وهكذا.
الطفل الرضيع إذا بكى وأسهر أمه طول الليل لا يسأل عن عمله لأنه لا إرادة له، والصيدلي إذا أخطأ فأعطى الممرضة دواء غير المكتوب في تذكرة الطبيب فناولته الممرضة للمريض وهي جاهله به فمات منه كان المسؤول هو الصيدلي لا الممرضة، لأنها لا إرادة لها في ذلك، والصيدلي هو المسؤول لإهماله في عمله.
فمتى وجدت الإرادة وجدت المسؤولية، وما لم توجد الإرادة فلا مسؤولية، فالأعمال التي ليس في طاقة الإنسان التحرز عنها والتي غلب فيها على نفسه لا يُسأل عنها، كأعمال المجنون والمغمى عليه، وكذلك أعمال المكره، فمن أمسك بيد آخر واضطره لارتكاب جريمة ولم يستطع المكره بحال أن يقاومه لم يكن مسؤولا، إنما المسؤول من أكرهه على العمل.
وهنا كثيراً ما يعرض هذا السؤال وهو: هل إرادة الإنسان حرة حتى يكون مسؤولاً عن عمله؟ هذه المسألة من المسائل المشكلة التي طال فيها الجدل قديماً وحديثاً، فيذهب بعض الباحثين إلى أن الإنسان مجبر ليس حر الإرادة؛ ذلك لأن إرادة الإنسان تتأثر بشيئين: الوراثة والبيئة، فهو يرث من أبويه ميولاً خيره وميولاً شريرة، وكذلك تؤثر فيه البيئة التي حوله من بيت ومدرسة وأصدقاء وكتب ونحو ذلك، فمن نشأ من أبوين مجرمين وورث منهما الميل إلى الإجرام وشب بين مجرمين وسمع أحاديثهم كان مجرماً لا محالة ولم يكن حر الإرادة فيما يفعل، وليس في استطاعته إلا أن يكون مجرماً، وإذا أردت إصلاحه فأصلح البيئة التي يعيش فيها، وانقله من بيئته السيئة إلى بيئة خيرة، ولكن في هذا الرأي غلوا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.