شعار قسم مدونات

الحب البلاستيكي

مدونات - الحب

تجتاحنا نحن البشر مشاعر قوية جدا لمعرفة كل شيء عمن نحب، تشدنا التفاصيل والقصص غير المحكية، وكلما تعمقنا أكثر كلما تعلقنا بشكل أكبر، أو هكذا أظن. وربما لهذا يقال أن الحب هو للشجعان فقط ولا مكان فيه للجبناء، الجبناء تخيفهم المعرفة، والمجهول يرعبهم أكثر، أما الشجعان فالمواجهة هي لعبتهم التي يحترفونها.

 

لسنوات طويلة لم أتقبل الطريقة التي يُحب بها مجتمعنا، وفي الغالب لم أفهمها أيضا، لأن الحب بنظري رابط داخلي يُترجم إلى رحلة اكتشاف، رحلة لاكتشاف النفس واكتشاف الآخر، الاكتشاف الذي يجعلك تغوص في أعماق تجهلها شيئا فشيئا فتكشف لك عن مكنوناتها التي لم تُكشف إلا لك، كنز تحصل عليه خلال رحلتك الشيقة، ولا يشعر به أحد إلا أنت. ولكن مجتمعاتنا فرطت برحلة الاكتشاف هذه واستعجلت وقفزت للنهاية، متوقعة أن تحصل على الحب الحقيقي بدون الاستماع للحكاية كاملة، الحكاية التي هربوا منها خوفا من نهايتها الطبيعية، فقرروا أن يرسموا النهاية كما يتمنوها بدلا من السير نحوها واكتشافها خطوة بخطوة، وهي لم تتحقق فحسب بل وحصدوا ما هو أفظع وأكثر رعبا؛ حكاية مشوهة لا بداية لها ولا نهاية، ولا حتى حبكة تجمع تفاصيلها معا ولا طعم لها أو لون، حكاية تركت في أرواحهم ندوبا غير قابلة للشفاء!

 

رحلتي لاكتشاف الحب كانت غنية جدا، ولسبب أو لآخر كنت محظوظة بالمعرفة التي حصلت عليها، فقد وضع القدر في طريقي قصصا متتالية قادتني إلى الخلاصة المشتركة بين معظم القصص هذه، ما استمر منها وما لم يستمر.

 

سمة الاستعجال سيطرت على مجتمعاتنا فأضاعوا الحب، استعجلوا النهايات وقد غاب عنهم أنه لا يوجد نهايات، حتى بعد موت أحد أطراف القصة تستمر حكاية من بقي على قيد الحياة

كنت أستمع لفتاة حديثة التخرج قمت بإرشادها لمساعدتها في مجال العمل، قضينا ساعات طويلة ونحن نتحدث، ومهما كان الموضوع الذي نتحدث فيه كنا ننتهي دوما إلى نقطة واحدة وهي بحثها عن اليقين، كانت في حالة مستمرة في البحث عن معنى اليقين، أرادت معرفة اليقين منا جميعا، كانت تبحث عن الإجابات التي تريدها من خلالنا ومن خلال تجاربنا، كانت محمومة بالسؤال وكنت أراها دائمة ضائعة. بعد فترة لا بأس بها رأيتها تستقر تدريجيا وتصبح أكثر ثباتا، وبدأت ملامح الضياع فيها تخفت مع الوقت على الرغم من أنها لم تجد الجواب القاطع الذي تريده بعد، ولكن ما إن سمحت لنفسها بأن تحب حكايتها الخاصة في رحلة بحثها عن اليقين، وعندما بدأت تنظر إلى المواقف التي تمر بها هي وتحاول أن تجد فيها إجاباتها وليس في مواقف أي أحد آخر، بدأت تغرق شيئا فشيئا بحب حقيقي جعل منها أكثر تركيزا واستقرارا وسلاما، وتوقفت عن الخوف من أن تقوم هي بالاكتشاف بدلا من الهرب إلى إجابات أشخاص آخرين سبقوها ووجدوا ما يخصهم.

 

فهمت أن عليها أن تمضي برحلتها الشخصية لتحصل على إجاباتها الخاصة، وأن الحب الحقيقي بدأ يتولد في حياتها ابتداء من تلك المرحلة. شعور الحب الذي تولد في قلبها من كل موقف وتحليل وجواب حصلت عليه مرة بعد مرة، هذا الحب هو ما سيجعلها تعود إلى الطريق الصحيح كلما شعرت بالضياع مستقبلا، وسينير لها الطريق مهما أصبحت الأسئلة أصعب وامتحانات الحياة أشد واليقين الذي ظنت أنها امتلكته للأبد صار في موضع شك!

 
في قصة أخرى على النقيض، كانت فتاة تعرفت عليها حديثا تروي لي تفاصيل إعجابها بشاب لا يعرفها، ومع ذلك فهي تعرف عنه كل شيء تقريبا، تعقبته خلسة فعرفت عائلته وأصدقاءه واهتماماته ومكان سكنه ومستواه الاجتماعي وغيرها الكثير، وبنت تصورا كاملا عن شخصيته وانطباعاته وهواياته، وتجاوزت ذلك إلى حد تخيل ماذا سيكون رأيه بها إن تعرف إليها لاحقا وصدقت هذا الخيال مع انه كان سلبيا! لم تكن القصة بتفاصيلها غريبة عني فقد سمعتها مرارا وتكرارا على مدار سنوات، ولكنني لم أتقبلها يوما، لم أفهم يوما هذا السلوك، لم أفهم لم يود أحد ما معرفة تفاصيل الشخص الذي قد يرتبط به دون علمه، هذا السلوك الذي سيؤدي حتما إلى تكوين حكم مسبق مهما حاول صاحبه أن يكون حياديا، فعقل الإنسان من الصعب أن يكون حياديا تجاه من يحب!

 

وهذا التصرف يحرمنا ويحرم الطرف الآخر من الغوص في أعماق الحكاية بطريقة حقيقية من خلال السماح له برواية قصته الخاصة كما يريدها هو ومن لسانه هو! أليس من حقه أن يخبرها هو عن أخته وماذا تعمل، وعن أمه وتفاصيل علاقته بها، ووقت فراغه ومع من يقضيه ومن هو الشخص الذي يعتبره صديقه المقرب؟ إن حرقت هي كل هذه المراحل بالحكم المسبق الذي بنته خلال بحثها عنه في كل الأماكن والتفاصيل والأشخاص الآخرين، فماذا تركت له وما نوع القصة التي قد يرويها بعد كل ذلك وما أهميتها؟

  

"الصبر"، كان الحب في حياتي يتولد ويشتد مع الصبر، في كل مرة أصبر فيها على شيء ما أو من أجل شيء ما كنت أشعر بالحب
 

ما فائدة القصة إن لم يرويها صاحبها على لسانه؟ واستعضنا عنها بقصة نسجنا تفاصيلها في خيالنا من معلومات جمعناها في غيابه؟ أليست شدة الاستعجال تفسد الرحلة وتقتل الحب؟ قصتها لم تنجح، حالها كحال كل قصة عرفتها من هذا النوع، لأن الأحكام المسبقة قتلت كل احتمال قبل أن يولد، الأحكام المسبقة تقتل الحب قبل أن يبدأ!

 

في قصتي أنا، أمضيت وقتا طويلا أبحث عن الحب، فالحب بالنسبة لي هو نبض هذا العالم، هو ما يجعلنا نصحو كل يوم ونستمر في الحياة، بحثت عن الحب في الروايات، وقصص المحبين، ورواد الأعمال، والوجوه الكالحة المكدودة في وسائل النقل، في كل زاوية وركن وطوبة، بحثت في وظيفتي ومشاريعي وأمنياتي، بحثت وبحثت ولم يكن أيا منها فيه الحب الذي يحييني، وكنت أظن أنني من أولئك الذين لا يتقاطع الحب معهم أبدا ويموتون قبل أوانهم بكثير، فتوجهت بالسؤال إلى الله لأعرف أين الحب في رحلتي، أيعقل أن أولد وأن أموت بلا حب؟ ورجوته الإجابة، ولم أكن أعلم أن الإجابة ستكون كما كانت!

 

"الصبر"، كان الحب في حياتي يتولد ويشتد مع الصبر، في كل مرة أصبر فيها على شيء ما أو من أجل شيء ما كنت أشعر بالحب، وعندما تأتي لحظة الفرج أشعر وكأنني وقعت في الحب للتو، فتتسارع نبضات قلبي ويحمر وجهي وأشعر بنفسي خفيفة كريشة في الهواء، في الوقت الذي كنت أعتقد فيه أنني منحوسة لم تجد الحب في حياتها، اكتشفت لاحقا أنني غارقة في حب مستمر، وكلما كان هذا الحب يخفت مع طول الصبر يعود ويشتعل لحظة الفرج. حينها فقط أدركت لم معظم مراحل رحلتي في الحياة كانت صعبة، ولماذا علي أن أصبر كثيرا ومرارا وتكرارا، ذلك لأن الله يريدني أن أمتلئ بحب ساطع يعرف كم أرغبه وأطلبه، لأنه أراد أن يستجيب لدعائي ولم يرد لي حبا مزيفا مشوها لا بداية له ولا نهاية، أو حبا بدون طعم أو لون.

  undefined

 

عندما أدركت هذه الحقيقة أصبح صبري مختلفا، لم يعد على مضض ولم أعد أتذمر، ولم أعد أستعجل الفرج في غير موعده، وبدأت أعيش تفاصيل المصاعب التي أمر بها مدركة لحظات صبري فيها بكل كياني، وبدأت أشعر بالحب يغمرني ويحيط بي، ولم يكن هذا الحب كبرياء ولا ادعاء لاجتياز المحنة أمام الناس، فقد كنت قادرة على الشعور بالحب ونشره حتى وأنا أبكي، حتى في أحلك الظروف، حتى وأنا أرى أحلامي تنهار، كنت منغمسة في الحب لأنني أعيشه ولم أستعجل نهايته، لأنني أعيشه ولا أصر على رسم صورة محددة له، لأنني اعيشه ولا أحرق مراحل ضرورية في رحلتي لأصل إليه سريعا، لأنني أدركت أنني أريد أن أعيش الحب لا أن أحصل عليه، وشتان بين الاثنين!

 

سمة الاستعجال سيطرت على مجتمعاتنا فأضاعوا الحب، استعجلوا النهايات وقد غاب عنهم أنه لا يوجد نهايات، حتى بعد موت أحد أطراف القصة تستمر حكاية من بقي على قيد الحياة ومن بعده ومن بعده. في كل قصة حب بلاستيكي كما يحلو لي أن أسميه، أبطال استعجلوا النهاية فأضاعوا الحب وأضاعوا أنفسهم!

 

في كل مرة تجد جوابا فأنت تجد الحب، في كل مرة تشعر فيها بحزن من تحب دون أن يخبرك فأنت تعيش الحب، في كل مرة تضيع اليقين ثم تجده فأنت غارق في الحب، في كل مرة تفهم روحا غريبة عنك فأنت منغمس في الحب. الحب الذي تصنعه بدل أن تعيشه ليس حبا، والحب الذي لا تجده خلال الرحلة لن تجده أبدا، وعدا عن ذلك لن يكون إلا حبا بلاستيكيا، لا طعم له أبدا ولا يترك أثرا في الروح، والروح التي لم يلمسها الحب ليست روحا على الإطلاق!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان