إن أصحاب التيار الأول تمسكوا بهذه الفتوى محتجين بأحاديث نبوية تحرم الخروج على الحاكم ولو سفك دمك وهتك عرضك وجلد ظهرك ومن هذه الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" وعن عبادة بن الصامت قال:" دعانا النبي صلّى الله عليه وسلم، فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً عندكم من الله فيه برهان". وبناء على هذه الأحاديث يحرم الخروج على الحاكم ولو قتل شعبا ونهب ثرواته إلا إن ظهر منه كفرا بواحا ظاهرا.
إن الإسلام متكامل لا يمكن فهم بعضه دون بعض فالعبادات لا تنفصل عن المعاملات والأخلاق وكذلك مواضيع السياسة الشرعية التي ذكرها الفقهاء مرتبطة ببعضها البعض ولا يمكن الحديث عن موضوع الخروج على الحاكم الذي تحدث عنه الفقهاء بشكل مقتطع دون فهم الأبواب الأخرى في السياسة الشرعية من الشورى والعدل والمساواة والرقابة ومسؤولية الحاكم ووجوب النصيحة والحرية وحقوق وواجبات الحاكم وحقوق والرعية وفي هذا المقام لا بد من ذكر عدد من المعايير التي تقوم عليها العلاقة بين الحاكم والمحكوم ثم نناقش بعد ذلك موضوع الخروج على الحاكم وحكمه.
فالحاكم في الإسلام ليست له صفة قداسة أو هو جزء من إله كما كان سائدا في العصور الوسطى بل هو مراقب ومسؤول ومحاسب على جميع تصرفاته |
المعيار الأول: إن نظام الحكم في الإسلام نظام يقوم على الحرية والشورى لا على الاستبداد والدكتاتورية فالحاكم تجب عليه الشورى ويحرم عليه أن يستبد برأيه وقراره والحاكم يخضع لسلطة أهل الحل والعقد وأهل الشورى أو ما يقوم مقامها من المجالس البرلمانية والصور المعاصرة ويرجع إليهم في جميع شؤون الحكم والإدارة وهذا ما أكدته سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يستشير في جميع أموره وشؤونه ويأخذ بالشورى فقد أشار عليه الحباب بن المنذر في غزوة بدر ومكان الوقوف وأخذ بشوراه وأشار عليه سلمان بحفر الخندق وأخذ بها واستشار الأنصار بغزوة بدر وأخذ بها واستشار الصحابة بغزوة أحد وأخذ برأي الشباب واستشار زعماء الأنصار بمصالحة اليهود على ثلث ثمار المدينة وبعد أن رفضوا رفض هذا الصلح والأمثلة على ذلك كثيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتي لا تدع مجالا للشك بوجوب الشورى وحرمة الاستبداد بالرأي والدكتاتورية.
المعيار الثاني: الرقابة على الحاكم ومسؤوليته فقد اتفق الفقهاء أن الحاكم هو وكيل عن الشعب ومعبر عنه إرادتهم وأن الحاكم في الإسلام ليس معصوما عن الخطأ بل يراجع ويقوم إن أخطأ وتوجد سلطة رقابية عليه هي سلطة الشعب وهذه السلطة مستمدة من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ما سار عليه الخلفاء الراشدون عند توليهم الخلافة فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للناس عند توليه الخلافة (وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) ثم يقول (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصبت الله فلا طاعة لي عليكم)، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب المهاجرين والأنصار ويقول لهم: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر ما كنتم فاعلين فسكتوا فعاد مرتين أو ثلاثا قال بشير بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القدح قال عمر أنتم إذاً أنتم.
فهذه هي الرقابة التي تكون من الشعب على الحاكم وهذه هي المسؤولية التي يستشعرها الحاكم بأنه مسؤول ومحاسب عن جميع تصرفاته. وهذا ما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته من كانت له عندي مظلمة فليقتص مني. فالحاكم في الإسلام ليست له صفة قداسة أو هو جزء من إله كما كان سائدا في العصور الوسطى بل هو مراقب ومسؤول ومحاسب على جميع تصرفاته.
المعيار الثالث: فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه الفريضة ثابتة على جميع المسلمين حاكمها ومحكومها بل هي على الحاكم أوكد وأوجب وأفضل وهي من أفضل الجهاد كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر والدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن يرجع إلى كتب التاريخ يجد القصص الكثيرة لعلماء وقفوا في وجه الحكام ومنعوهم من الظلم والاستبداد فليس للحاكم سلطة مطلقة في إصدار الأوامر وقتل من يشاء وسفك دم من يشاء إنما هناك جهة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر تقف في وجهه وقد تمنعه إن اضطر الأمر وهذا من أفضل أنواع الجهاد.
المعيار الرابع: ليس للحاكم في الإسلام صفة الديمومة على الحكم والبقاء على الكرسي بل ذكر فقهاء السياسة الشرعية حالات متفق عليها بانعزال الحكم وذلك عند ثبوت خيانته أو عجزه الحسي والمعنوي عن إدارة البلد فإذا ثبت تورط الحاكم بالخيانة يعتبر منعزلا بشكل تلقائي ولا طاعة له من الشعب فالحكم ليس له صفة الديمومة بل ينعزل بارتكاب ما يوجب العزل.
المعيار الخامس: إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي عقد بين الطرفين يلتزم فيه الحاكم ما التزم به أمام الشعب وهذا ما فطن له علي بن أبي طالب عندما طلب منه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه البيعة على كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين فقال لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي فعلي رضي الله عنه لو بايع على سيرة الشيخين لالتزم ذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون على شروطهم فالحاكم ملتزم بما اتفق عليه بينه وبين الشعب وهذا ما يحدده الدستور بإعطائه صلاحيات متفق عليها بين الحاكم والمحكوم يجب الالتزام بها ولا يجوز له الخروج عنها.
المعيار السادس: يجب على الحاكم أن يقوم بجميع واجباته المنوطة به من تأمين الحياة الكريمة للشعب والمساواة والعدل وحفظ الأمن والدماء والأموال وصرف الأموال إلى مستحقيها وتولية الأصلح في الولايات دون اعتبار نسب أو قرابة وأنه مستأمن على أموال الرعية ويحرم عليه أن يأخذ جزء من بيت مال المسلمين لمصالحه الخاصة بل يعتبر هذا خيانة للأمانة التي كلفه الله بها يقول تعالى:" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وعندما نزلت هذه الآيات في فتح مكة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي شيبة وكان قد أخذ منه مفاتيح الكعبة قائلا له: خذوها لا ينزعها منكم إلا ظالم.
وبعد استيفاء هذه المعايير المذكورة عندها نتحدث عن حاكم شرعي يحرم الخروج عليه بل من يخرج على هذا الحاكم يعتبر باغيا معتديا يجب الوقوف في وجهه كما هو موجود في كتب الفقه والأحاديث التي تأمر بطاعة الحكم في المنشط والمكره. أما أن نتحدث عن حاكم جاء عن طريق القوة العسكرية وحكم شعبه بالحديد والنار ونهب أموال شعبه وزجهم في السجون والمعتقلات وتعامل مع جميع قوى الأرض لتثبيت حكمه فهل هذا هو الحاكم الذي توافرت فيه الصفات السابقة المذكورة حتى نعتبره حاكما شرعيا يحرم الخروج عليه!
وللأسف نرى بعض الدعاة يبررون لاستبداد الحكام ثم يزينون للعامة حرمة الخروج على الحاكم مستدلين بأحاديث جزئية تم اقتطاعها عن سياقها الكامل في السياسة الشرعية. إن من ينظر إلى السياسة الشرعية نظرة شاملة بجميع أبوابها يستطيع أن يوفق بين وجوب طاعة الحاكم وحرمة الخروج عليه ومتى ينعزل الحاكم فالحاكم المقصود هو الحاكم الشرعي الذي تتوافر فيه جميع صفات الحكم الرشيد أو وجوب الصبر على الحاكم إن أخطأ في حقوق فردية خاصة أما من يقتل شعبا ويسليهم جميع حقوقهم وحرياتهم ويحكمهم بالحديد والنار ما هو إلا سارق لثروات شعبه مجرم بحق أمته لا بد أن يقدم للمحاسبة والمحاكمة العادلة بنظر الفقه والسياسة الشرعية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.