شعار قسم مدونات

توابيتُ الخُلود (2)

blogs توابيت الخلود

جاءَنا فيما وردَ من الأثرِ المُتواتر، أنَّه قبل رِسالةِ الإسلام ببضعِ قرون، كان إمبراطورًا رومانيًّا يُدعى "داكيوس قيصر" كافِرًا لا يدينُ بعبادةِ التوحيد، كان يعبُدُ أصنامًا ويُمجِّدُ هياكلًا، يُقدِّمُ لها الذبائحَ ويعكفُ لها عابدًا، ولم يكُن الأمرُ يقتصِرُ على هذا الحدّ، بل كان يعتبرُ من يُخالِفَهُ في اعتقادهِ شخصًا آثِمًا يستحقُّ العقاب.. وكما حالُ أغلب الرِّعاع، صفَّقَ أهلُ الباطل للباطلِ، وكما هو الحالُ أيضًا، لم يرضَ بعض فتية من القومِ أن يتركوا الحقَّ ليُستباحَ عيانًا من رجلٍ لا يعرفُ عن الحقِّ شيئًا.

لم يتقبَّل القيصر أن يخرُجَ بعضُ الفتية ليُظهِروا رفضَهم لما يعبُد.. فتتبَّعهم بُغيةَ قتلِهم، ليُخلِّصَ الناسَ من شرورهم، لكنَّهم آوَوْ وكلبهم إلى كهفٍ على أطرافِ المدينة، أصابهم النوم، عندما استيقظوا كان الكهفُ كما تركوه بالأمس، وإن كان هذا الأمس قبل ثلاث مِائة وتسع سنين، لكن يبدوا أنَّ أحدًا منهم لم يكُن على درايةٍ بهذا الأمر! طلبوا من أحدهم أن يذهب إلى السوقِ ليشتري لهم طعامًا، ولأنَّهم لا علم لهم بالزمن الجديد الذي يعيشون فيه، نبَّهوه أن يحذر، حتى لا يَشعُرَ بوجودهم أحدٌ فيرجموهم.. لكن ولأنَّ العملة التي كان يستعملها كانت قديمة، عرف الناسُ أنهم أولئك الفتيةُ الذين هربوا قديمًا من ظُلمِ القيصر!

لم تكُن القصَّةُ معقولة، لم يكُن ليُصدَّقَ أنَّ أشخاصًا ناموا أكثرَ من ثلاثةِ قرونٍ قبل أن يستيقظوا دون أن تظهرَ عليهم أيُّ علامةٍ تدُلُّ على ذلك، كأنَّ الزمنَ توقَّفَ بهم على تلك الحالة التي كانوا عليها، كأنَّ أجسامهم تجمَّدت فلم يشعروا جميعًا بمرور الزمن، حرفيًّا لم يشعروا بمرور الزمن، أعرفُ أنَّ النائم لا يشعُرُ بمرور الزمن، لكن يخضعُ جسدُهُ لتغيُّرات العُمر الفيسيولوجيَّة، يطولُ شعرُهُ ولحيتُهُ، وتشيبُ عظامُهُ وتوهن عضلاتُه، تمامًا كما لو كان حيًّا، هذا لأنَّ العقل نائم، لكن باقي العمليَّات الحيويَّة تعملُ بانتظام. أمَّا في تلك الحالة، فهُناك المزيدُ من الحقائق التي ربَّما علينا مُراعاتُها.. أعرفُ جيِّدًا أنَّ ما حدثَ يُعدُّ من قبيل المُعجِزات أو الكرامات على حدِّ أدقّ، لكن هذا لا يمنعُنا من التفكير فيما يُمكنُ أن يكون قد حدث!

يُمكننا تجميد العمليات الحيويَّة بأجسامنا، فيبقى الجسم بالعُمر الذي جُمِّدَ عليه، والمرض سيتجمَّد هو الآخر، وعندما يتوفَّر الحلَّ أو العلاج، يُمكننا بطريقةٍ ما أن نُعيد الجسم مرَّةً أخرى للحياة

قبل تلك الحادثة بقرون، وعلى الجانب الآخر من بحر الروم، كان الفراعنة وحُكَّام مِصرَ يتبعون نهجًا دينيًّا سلكوهُ بدايةً ليحكموا به الشَّعب، فاستحدثوا لهم آلهةً يعبدونها، وعيَّنوا خُدَّامًا وكَهَنَةً ليكونوا وُسطاء بين الناس والآلهة، كان لهؤلاء الكهنة مقامٌ كبيرٌ بين الناس، يحترمونهم كما الآلهة، ويطلبون منهم البركات والرحمات، وهذا ما كان يُريدُهُ الملك، حيثُ كان الكهنةُ بين ترانيمهم يُمَرِّرُون للناسِ ما يُريدُه الملكُ، حتى أنَّهم استطاعوا في بعض الأحيان أن يُنصِّبوا الملِكَ مكان الإله، أو ابنٌ للإله، وعلى ذلك فإنَّ كُلّ من كان يُخالف الملك فإنَّهُ يُخالفُ الإله، وبهذا يُمكنُ أن يتعرَّضَ للعقوبةِ الأقسى حينها، والتي لم تكُن القتل أو الصلب، بل كانت أبشَعَ من ذلك، إنها الحرمان من الذهاب إلى الجانب الغربيّ!

من ضِمنِ تلك الأفكار التي مرَّروها للناس كانت تلك الفِكرةُ التي تتحدَّثُ عن البعثِ بعد الموت للثواب أو العقاب، لذا كان عليهم أن يجدوا طريقةً للحفاظِ على الجسدِ سليمًا بعد الموت، فما كان منهم إلا أن استحدثوا طريقةً لذلك، وهي ما عُرفت فيما بعدُ بعلم التحنيط. كانت مراسمها تُقامُ في المعابد، يقومُ الكهنة بتحنيط الجُثَّة، ثمَّ وضعها في تابوتٍ خاصٍّ لكلِّ جُثَّة ليحفظها، ومن ثمّ إرسالها إلى الجانب الغربيّ من النيل، حتَّى تُحفظ إلى أن يحينَ موعدُ إيقاظُها للحساب..

 

وكانت العقويةُ الأقسى في الدُنيا أن يُصلبَ المُذنبُ ويُترك دونَ أن تُقام له شعائرُ الدفن أو التحنيط، ولم يكُن له نصيبٌ من التوابيت، مما يعني أنَّهُ لا نصيبَ له في حياةِ الخلود، على حدِّ اعتقادهم. لم يكُن الغريبُ في أمر الكهنةِ أن يُمرِّروا إلى أذهان الناس مثل تلك المعتقدات التي لا دليل عليها، بل كان الغريبُ أن ينسِجوا بخيالهم قصصًا مُحكمةً لا دليلَ عليها، ومع ذلك يؤمنُ بها الجميع، حتى الملوك أنفسَهم. يبدو أنَّ الأمر لم يكُن مُجرَّد خُدعة اختلقها الكهنة!

في سبعينيات القرن الماضي.. وأثناء ما كان "ماكس مور" المدير التنفيذي ورئيس شركة "ألكور" التي تعني بحفظ وتجميد الأعضاء، يُشاهدُ برنامجًا تلفزيونيًا خياليًا، يتحدَّثُ عن أشخاصٍ تمّ تجميدهم في الجليد، وبطريقةٍ ما استطاعوا السفر إلى المُستقبل.. لمعت تلك الفكرةُ في رأس "مور".. فإن كان من الممكن الاحتفاظ بالأعضاء، ما الذي يمنع أن يُحفظَ الجسد كاملًا، ومن ثمّ إعادة إحياؤه في المُستقبل؟!

قام بعض العُلماء باختبار إمكانية تحقيق تلك الفكرةٍ.. الأمرُ الذي يعني أننا قريبًا يُمكننا أن نعيش في المُستقبل، يُمكننا أن نُجمِّدَ أجسادنا المُصابة بالأمراض التي لا علاج لها اليوم، ومع تطوّر العلم فإنَّنا في المستقبل قد نجدُ علاجات جديدة لتلك الأمراض! يُمكننا تجميد جميع العمليات الحيويَّة في أجسامنا، وبذلك سيكون الجسم في حالةٍ من التوقُّف الزمني، حيثُ سيبقى الجسم في العُمر الذي جُمِّدَ عليه، وبالتالي فإنَّ المرض سيتجمَّد هو الآخر، وعندما يتوفَّر الحلَّ أو العلاج، يُمكننا بطريقةٍ ما أن نُعيد الجسم مرَّةً أخرى إلى الحياة! فيما يُعرف بظاهرة "كرايونيكس"…

يبدو هذا الأمر ثوريَّا.. نحنُ نرى ما يفعلهُ مرض مثل فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي "C"، حسب منظَّمة الصحَّة العالميَّة فإن هناك 700000 شخص يموتون سنويًّا بهذا المرض.. أصبح الآن يُعالج بطريقةٍ ما، حتى أصبح أقلّ خطورة عمَّا كان في السابق.. لكن ماذا لو استطعنا تجميد أولئك المرضى الذين هلكوا بسبب هذا المرض، كان بإمكانهم أن يحتفظوا بفُرصةٍ أخرى للحياة! ألن يكون هذا الأمر أفضل من أن ننتظر الموت دون حيلة منَّا؟!

في كُلّ يومٍ يتقدَّم العلم أكثر، يُصبح الخيالُ واقعًا أسرع من كلّ التوقُّعات.. لكن هل يُمكننا بأيّ صورة أن نتحايل على الموت؟ هل حقًّا هُناك إمكانيَّةً لتحقيق الخلود؟! إنَّه حقًّا الأمر الأكثر تعقيدًا على الإطلاق.. فالموتُ هو الحقيقةُ الوحيدةُ التي يُؤمنُ بها العلم رغم عدم وجود تفسير لها.. ما الذي يستطيعُ أن يُفسِّرَ أن يكون الإنسانُ حيًّا الآن وبعد لحظةٍ ميِّت.. ما الذي أماته؟ هل هو تدميرُ الجسد؟ أم أنَّ هُناك سرٌّ أخر؟ لكن ماذا عن ذلك الذي يموتُ دون أن يُصيب جسدُهُ أيُّ مكروه (كإصابات نوبات القلب المُفاجئة)؟ هل هو موتُ الجسد أيضًا؟!

عندما يتوقَّفُ القلب عن الخفقان، فإنّ الإنسان يتوقَّف عن الحركة نتيجةً لانخفاض ضغط الدم.. وعندما يتوقَّفُ إمداد الدم الواصل إلى الدماغ، فإن الجسم يموت.. لكن هذا ليسَ تفسيرًا للموت.. بل تفسيرٌ لما يحدُثُ أثناء الموت.. وإن كان للأديان رأيٌ في تلك المُعضِلة، فإنَّما كان منها لا يُمكنُ إثباتُهُ بالعلم المُجرَّد رُغم الادعاءات الكثيرة بثبوتها.. فتفسيرُ الدين للموت هو عبارة عن خروج الروح.. أي خروج تلك القوَّة الخفية التي تسكُنُ مكان ما في الجسم.. وعندها يبدأ الجسم في التوقُّف عن الحركة في إشارةٍ للموت.. دون حاجةٍ أن يتلف بعضُ أجهِزةِ الجسم، إذ لا شيء يستطيعُ أن يُنكر أن تلك الأجهزة يُمكنُها أن تعمل مرَّةً أخرى بعد موت الإنسان.. بدليل انتقال الأعضاء كما ذكرنا.. فأعضاءُ الميت يُمكنُها جميعًا أن تنتقل إلى إنسانٍ آخر لتعمل من جديد، دون أن تُغيِّرَ من إرادة الشخص المُنتقلة إليه.. وهذا ما يُفسِّرُ أنَّ هُناكَ شيئًا أسمى من الجسد يتحكَّمُ في الإنسان.

لكن لحظة! هل يُمكنُ أن يكون الفراعنة قد انتبهوا لتلك الفكرة من قبل؟ هل علموا بإمكانيَّة الإحياء فيما بعد؟ وهل تلك التوابيتُ التي حُفظت فيها المُومياوات ما هي إلا صورةٌ قديمة لفكرة "كرايونيكس"؟! على الرغم من كون فكرة التوابيت غير ناجحة عمليًّا في الحفاظ على العمليات الحيويَّة داخل الجسم، لكنها استطاعت الحفاظ على مُعظم أجزاء الجسد لآلاف السنين، مما يعني إمكانيَّة أن تكون فكرة صحيحة!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان