شعار قسم مدونات

يوم الأم والأرض في أربع مشاهد ومشهد

مدونات - امرأة فلسطينية

إن العالم يحتفل في الحادي والعشرون من كل عام بيوم الأم على الرغم من الجدال حول تحجيم دور الأم بيوم واحد من أصل 365 يوماً، حيث كيف لأم حملت وتعبت وأحسنت التربية أن يختزل دورها بيوم واحد فقط والتي كافحت حتى وصلت بنا إلى بَرّ النجاح. على الرغم من كل تلك السجالات ينهض قلمي للكتابة وليظهر للعالم الألم الذي يعتصر الأمهات اللواتي وقعن تحت نير الظلم في بعض البلدان عامة والفلسطينية خاصة حيث يتزامن يوم الأم مع يوم الأرض والذي يصادف في الثلاثون من آذار من كل عام. إن يوم الأم الفلسطينية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأرض حيث نرى الأم الفلسطينية ومنذ عشرات السنوات تقف وقوف الجبال الراسخة باسطة ذراعيها معانقة الأرض مدافعة عنها تحتضن شجرة الزيتون مانعة المحتل من اقتلاعها وكأنها تقول اقتلعوني أنا وذريتي وأكملوا المهمة.

نجدها في المدرسة حيث تلقن الطلبة والطالبات الحقيقة بأحقيتنا بالوطن والأرض فنحن لنا أرض ووطن أعطيت لمن لا يستحق ويجب أن نقوم بالدفاع عنها بكافة السُبل، نجدها تلك الممرضة التي تضمد جراح ذلك المسن الذي تم سحله في داخل أرضه، وأكثر الصور ألماً نجدها أماً تحتفل بيومها مع فلذه كبدها الرضيع في داخل زنازين الاحتلال وذنبها الوحيد الذي تم اقترافه هو أنها رابطت على أعتاب المسجد الأقصى عند باب العمود تارة وعند باب حطة تارةً أخرى حتى تكون الكلمة الفصل على ما تبقى لنا من كرامة للفلسطيني وللأمة العربية والإسلامية فقط.

 

الأم الفلسطينية عندما تنوي أن تحمل الأمانة لا تقبل أن تبقى على درجة واحدة من العطاء، بل تعطي أكثر من العطاء نفسه على الرغم من الألم، وهذا المشهد يعد استكمالاً لمشهد أم المطارد

وأنوه أنه مهما كتبت لن نستطيع أنا وقلمي الوصول إلى مرحلة النهاية لهذه الإنجازات العظيمة، حيثث نبهني أن حبره قد ينفذ قبل أن يجمل جميع بطولات تلك الماجدة، على الفور رددت عليه قائلة: سأصل أنا إلى مرحلة الشيخوخة وسيدنو الأجل مع عدم القدرة على إجمال جميع تلك المراحل المضيئة في حياة المرأة والأم الفلسطينية على أرضها. عندما أقوم بالكتابة لا أمر مرور الكرام على مواضيع معينة حتى آخذ منها اقتباس بل يجب عليّ أن أصل لمرحلة متقدمة من الخيال والعيش مع المكتوب حتى لو كان خيالاً متقدماً أحاول الإحساس بشكل حقيقي بالشخص الذي أريد أن أنقل رسالته. وبالنسبة للأم الفلسطينية وعلاقتها الوثيقة بالأرض خرجت بأربع مشاهد ومشهد تصف بعضاً من حالها:

 

المشهد الأول أم المطارد

لقد دار في ذهني حال قلب هذه الأم الصابرة فهي بالأمس فقط كانت تحتفل بتخرج ابنها من الجامعة لقد نجحت وأوصلته لبر الأمان في الحياة العملية وأكملت مهمة زوجها الذي سقط على هذه الأرض مدافعاً عن الوطن بل كانت في بعض الليالي هي من تعد له أدوات الرباط والثياب لدرجة أسمى من ذلك تقوم بتنظيف حذائه في كل مرة يخرج للجهاد حتى قال لها في ذات مرة إن الحذاء سيعود لحاله كما كان قبل تنظيفه ردت عليه قائلة: أريد أن آخذ جزءاً من أجر الرباط فأنت في كل يوم تعود بتراب جديد لتعلن في كل يوم على أحقيتنا بهذه الأرض، ما هذه العظمة يا أمي؟ وتتساءلون لماذا أصبحت أم المطارد؟ إنها لن ترتضي لنفسها أن تخون الأمانة التي بقيت معها بل تكمل المسير هي وفلذة كبدها كانت في هذه المرحلة العائلة بل كانت العالم أجمع لقد ترعرع على حب الأرض وحمل الراية التي تركها والده وأخذ ينتقل من أرض إلى أرض ينشر الحب والإنجاز ويعيد القضية سيرتها الأولى.

 

المشهد الثاني أم الشهيد

إن الأم الفلسطينية عندما تنوي أن تحمل الأمانة لا تقبل أن تبقى على درجة واحدة من العطاء، بل تعطي أكثر من العطاء نفسه على الرغم من الألم، وهذا المشهد يعد استكمالاً للمشهد الأول فنجمها الذي سطع وأصبح مطارداً في ذكرى الاحتفال بيومها أصبح شهيدا ًفي يوم الأرض، إن الأرض أعلنت احتضانه كما احتضنت من سبقه، إن أم الشهيد اليوم لا تنتظر من نجلها أي هدايا عطوراً أو زهور، يكفيها فخراً أن هديتها اليوم هو المسك الذي فاح من جسد نجلها وأما عن الأزهار فعيناها تنظر لتلك التي وضعت على روضته وكأنها تقول يا ليتني إحداهن.
 

المشهد الثالث أم الأسير

 

"مريم فرحات" خنساء فلسطين (الأوروبية)

 

وكما عهدنا خنساء فلسطين فإن عنوان حياتها الاستمرارية لم تكتفي بابنها المطارد في المشهد الأول ولا بالشهيد بالثاني ، وفي هذه اللحظة تعيش حال أم الأسير لقد تم اعتقال ابنها الثاني أثناء تصديه لقوات الاحتلال والتي أرادت السيطرة على بعض من الأراضي، من أجل ضمها لجدار الفصل العنصري إن هذا المشهد له رونق وجمال خاص أتعلمون لماذا؟ لأن أم الأسير هي من شجعت نجلها الآخر على عدم الرضوخ والتنازل فلن تنكسر لها شوكة، ولكن اليوم هو يوم الأم وعلى غير أمهات "العالم السوشلجي" اللواتي ينتقلن من بلد لآخر ويستعرضن قائمة مشترياتهن على أعتاب التبذير الأعمى في معظم الأحيان..

 

يذهب ذهنها إلى ما وراء القضبان وهنا يظهر المقدام وكأنه يحاورها لا تقلقي يا أمي لقد انتهيت للتو من التحضير لهديتك في يومك لقد صنعت لك أجمل مطرزة على شكل الوطن والأرض المحتلة لقد شكلت خارطة فلسطين التاريخية لقد حان موعد حصاد زرعك فينا يا أمي، أنا لست من الأشخاص اللذين يحفظون الكلام دون تطبيقه، لقد نجحت في ترجمة المثل الذي لا تملي من تلقينه لنا قولا وفعلاً " الأرض كالعرض" كيف لي أن أنسى ساعات وأيام وشهور رباطك في داخل المسجد الأقصى؟ طُرق باب المنزل وإذا بصديق ابنها الأسير والذي خرج من سجنه لتو يجلب لها الهدية، إن التخاطر الذي حصل بين الأسير وأمه تخاطراً حقيقياً أتعلمون لماذا لأن الصدق والإخلاص عنوانه، فتحت الهدية أخرجت الخارطة من الكيس وعلقتها زينة على جدار الغرفة.

 

المشهد الرابع أم الجريح
مهما خطت يدانا الحروف والكلمات فإننا لن نستطيع أن نجمل كل الآهات، مهما مرّ الزمان ومهما تبدلت الأجيال نعود لأصلنا نؤكد على أحقيتنا بهذه الأرض

في هذا المشهد نرى تلك الأم المحتسبة والتي رابطت وقاومت ألم ابنها وحولته لأمل، ابنها الذي أصيب بالشلل بعدما اخترقت الرصاصات عموده الفقري على أعتاب باب العمود عندما رفض التهويد ومحاولات السيطرة على ما تبقى للأمة من عز، واليوم تنجح لأن مشهدها الرابع على الرغم من كل الألم تحول إلى أمل ولوحات فنية تعرض حكاية الأرض المسلوبة للعالم في المعارض الفنية لتحكي من خلال نجلها قصة وطنها وقصة واقع عيدها المسلوب، وحكاية أرضها التي سلبت ولا مجيب لقد نجحت أمي في كل المشاهد حتى توجت هذا النجاح من خلال صنع ذلك الفنان بعيداً عن كل اليأس والخنوع .
 

مشهد أم المفقود

سأختم بهذا المشهد والذي لن يخطر إلاّ في ذهن عدد قليل فقط أتعلمون من هم؟! ذهن من يسكن مخيمات الشتات وذهن من تسكن القضية في نفسه. في هذا المشهد أرى عيون جدتي والتي تسكنها دموع متحجرة أرى عيونها التي أصابها الإعياء من شدة النظر والتحديق لعله يعود في يومها تنتظر وكل الحسرة تملأ ذهنها وتتساءل كيف خرجت وتركت فلذة كبدي هناك؟ شابت وهرمت وهي تضع الكرسي على أعتاب المخيم منذ سبعون عاماً مضت وحقيبة العودة مرتبة، فهي عندما وعدوها قالوا لها ولمن خرج في تلك الفترة عشرة أيام وستعودون.
 
إن جدتي التي أصبحت على مشارف المئة عام تحمل المفتاح في جيبها وثياب ابنها التي أخذتها معها عند النكبة في حضنها ويعود الحنين إلى يافا ثم تقول إنه ينتظرني هناك لأعود على الرغم من خروجها من المنزل إلاّ أنها تحسد من فقدت فهي كانت تمد يدها وتحتضن أيدينا وتضع المفتاح بداخلها وتقول لنا عودوا إلى يافا لأن صغيري مازال هناك؟! إما أن يكون قد عذب واستشهد أو تم وضعه في أحد السجون السرية في تلك الفترة وأصبح مفقوداً، يا ليتني نسيت نفسي ولم أخرج يا ليتني لحقت به ولم ألحق بوعودهم الكاذبة، مر العمر يا أحفادي وأنا أنتظر أكثر من ذي قبل وفي يوم عيدي عليكم أن تعلموا أن فقد الوطن أصعب على نفسي ممن فقدت لأني هنا أعيش تحت رحمة من لا رحمة لهم، وأنتم لكم الخيار إما أن تفقدوا أنفسكم مئات المرات أو تعيدوا المجد لكم ولمن فقد.
 
مهما خطت يدانا الحروف والكلمات فإننا لن نستطيع أن نجمل كل الآهات، مهما مرّ الزمان ومهما تبدلت الأجيال نعود لأصلنا نؤكد على أحقيتنا بهذه الأرض حتى لو كان ذلك على حساب أعيادنا الوطنية ومناسباتنا الاجتماعية فلا مكان للاحتفال اليوم وكأن شيء لم يكن، لأن هذا التأكيد جزأ من تاريخ طويل وعنوان أصالتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.