شعار قسم مدونات

أخيرا الهندي يفوز والعمارة أيضا

مدونات - بالكريشنا دوشي

أعُلنت منذ أيام قليلة نتائج جائزة بريتزكر (Pritzker Prize) للعمارة للعام 2017 وهي أرفع وأرقى تقدير يمكن أن يحصل علية معماري في العالم بأسره. وتمنح الجائزة سنويا لتكريم أحد المعماريين الذين لا زالوا على قيد الحياة. وهي أيضا الجائزة التي تعادل في قيمتها المعنوية والأدبية والمهنية جائزة نوبل في مجالات الآداب والعلوم. في هذا السياق نشير إلى أن الجائزة بدأت عام 1979 بعد أن أسسها السيد جاي بريتزكر وزوجته، مالكو سلسلة فنادق هيات ريجنسي العالمية الشهيرة، تقديرا منهم للدور الكبير الذي تلعبه العمارة في تصميم المبنى والفضاء والمدينة كلها وتعطي لهم الطابع والمذاق بل والنجاح المهني والتسويقي. وهي الجائزة التي فاز بها نجوم العمارة العالمية مثل فيليب جونسون وفرانك جيري وهانز هولاين وكنزو تانجه وروبيرت فنتوري ونورمان فوستر وريم كولهاس والمبدعة الفقيدة زاها حديد التي حصلت على الجائزة عام 2004.

 

الفائز في دورة هذا العام هو المعماري الهندي بالكريشنا دوشي المولود في مدينة بوني الواقعة غرب الهند عام 1927، وهو الأول في عائلته كلها الذي يتجه لدراسة وامتهان العمارة. وهو الفائز بعد أن حصل على الجائزة عام 2016 المعماري التشيلي أليخاندرو أرافينا، والأخير هو المعماري الذي صمم ونسق بينالي فينسيا للعمارة في نفس العام. درس دوشي العمارة في مومباي ثم سافر إلى باريس وعمره 24 سنة، وبالتحديد في عام 1951 ليعمل لدى أستوديو المعماري الرائد لوكوربوزييه (1887-1965) أحد الأركان الأربعة لعمارة الحداثة مع زملائه ميس فان درروه وفرانك لويد رايت ووالتر جروبيوس الذين وضعوا ملامح حركة الحداثة في العمارة المعاصرة في بدايات القرن العشرين.

 

المشروع الإبداعي والفلسفي والأخلاقي للمعمار دوشي يتبلور في مشروعاته السكنية وتخطيط المدن. نموذجا مهما لهذا التبلور هو مشروع "أرنايا للمساكن منخفضة التكلفة"

اقترب دوشي من الأستاذ المعمار المعلم ونهل من معارفه المعمارية والفنية ثم عاد إلى الهند ليكون من ضمن الفريق الذي أشرف على مشروعات لوكوربوزييه التي صممها في الهند، ومن أهمها مدينة شانديغرا. وعندما بلغ دوشي عامه التاسع والعشرين قرر تأسيس مكتبه المعماري الخاص مرتكزا على عدة مفاهيم مرتبطة بحتمية التعلم من البيئة المحلية بالإضافة إلى التعلم من الحرفيين البسطاء ولكنهم شديدي الإبداع والتميز والخلق والحرص على الابتكار في سياق محلي ولكن بنكهة عالمية تقدر من العالم كله. لم يكن دور دوشي الذي ارتآه لنفسه يقتصر على ممارسة العمارة والعمران وإنتاج البيئات المبنية لمجتمعات الهند، ولكنه كان مؤمنا بقيمة التعليم المعماري ونضجت الأفكار لديه عندما بلغ عامه الخامس والثلاثين فأسس وصمم مدرسة إسلام آباد للعمارة التي كان مفهومه التصميمي فيها يرتكز على أن الجامعة هي مكان للاكتشاف وليس فقط للتلقين والحفظ لمعارف معروفة ومستقرة. وإن الحرم الجامعي هو مكان للانتقال من حيز اللا معرفة إلى حيز المعرفة وبصورة مستدامة ومستمرة.

 

فاز المعمار دوشي بجائزة بريتزكر بعد أن احتفل بعيد ميلاده التسعين أمضى منها أكثر من ستة عقود يقدم معمارا منحازا للفقراء والمهمشين. وفي بيان الجائزة المفسر لفوز دوشي نقرأ فلسفته بوضوح وهي التي قدر عليها أعظم تقدير "يجسّد المعمار حساً عميقاً بالمسؤولية ورغبة في المساهمة بعمارة أصيلة وبجودة عالية تخدم الهند ومجتمعها الإنساني". وقد أكثر دوشي من تأمل ودراسة وتحليل أنماط العمارة المحلية في الهند وهي عمارة شديدة التلون والتعددية. وهو يقر بأنه تعلم منها الكثير وخاصة عمارة المعابد التقليدية التي أبهره فيها سيمفونية البشر والمكان واللون والأرض والسماء. هذه السيمفونية التي تبدو ألحانها وتوافقاتها أحيانا بسيطة وتبدو في أحيانا أخرى شديدة التركيب والتعقيد. كما أنه وجدها تجسيدا لتساؤله المُلح والدائم: كيف تفيد العمارة المجتمع كله وليس فقط صفوته ونخبته؟ وقد انعكس هذا التأثر على نصائحه التصميمية المستمدة من منطق التعقيد والتركيب الفراغي المنظور في المعابد التقليدية. وتلك النصائح قدمها للمعماري الأميركي لويس كان (1901-1974) الذي عهد إليه تصميم "المعهد الهندي للإدارة" في بنغالور بعد أن كانت شهرة الأخير قد اتسعت فور إنهائه مبنى البرلمان في مدينة دكا عاصمة البانجلاديش.

 

ولكن المشروع الإبداعي والفلسفي والأخلاقي للمعمار دوشي يتبلور في مشروعاته السكنية وتخطيط المدن. نموذجا مهما لهذا التبلور هو مشروع "أرنايا للمساكن منخفضة التكلفة" الذي صممه دوشي في بدايات الثمانينات من القرن الماضي. فنقيضاً لكل التوقعات فقد خطط وصمم مشروعا يتسع لأكثر من 80 ألف إنسان في مساكن قليلة التكلفة ولكنها متميزة وتحمل ملامح تشكيلية مستلهمة من العمارة المحلية، كما تشمل تركيبتها العمرانية مجموعات من الأفنية الداخلية والعامة وشبه العامة والتي تتواصل من خلال شبكة معقدة من الممرات إنسانية المقياس وحميمية الإحساس نابعة من الصيغة التقليدية للأحياء في المدن الصغيرة والبلدات الهندية. لقد أتاح المعمار دوشي الفرصة لأكثر الطبقات فقراً في الهند لتعيش في بيئة مبنية تحقق الوظيفة وفي الوقت ذاته جميلة وأنيقة ومحدودة التكاليف ومرتبطة بالعمارة المحلية.

  

بالكريشنا دوشي (مواقع التواصل)
بالكريشنا دوشي (مواقع التواصل)

 

وفي منتصف الثمانينات انتقل دوشي إلى مقياس تخطيط وعمراني جديد حين كُلف بعمل التخطيط العمراني لمدينة فيدهيدر ناغار التي تقع بالقرب من مدينة جيبور القديمة، بغرض استيعابها لأكثر من ثلاثمائة ألف نسمة. فخططها وصممها لتجمع مميزات العمارة الهندوسية القديمة بالحداثة كما استوعبها في تأملاته وتحليلاته. وفي كل هذه المشروعات ركّز المعماري دوشي على العناصر المستمرة في ثقافة المعمار الهندية، من شبكات حركة إنسانية نابضة بالحياة، أسواق نشطة، وساحات القرية الرئيسية، وأفنية المنازل بالإضافة إلى البنية الهندسية والتركيبات الزخرفية واللونية. كل هذا لأنه كان واعيا كل الوعي لأن على المعماري أن يكون صادقا ومبدعا حقيقيا ومن ثم يعكس نمط الحياة الاجتماعي والتقاليد الثقافية والروحية للمكان الذي ينتمي إليه ويصمم فيه.

 

إن المعماريين والمصممين والعمرانيين والمسئولين عن جمال الأمكنة يجب أن يتعلموا الكثير من سردية المعماري بالكريشنا دوشي. يجب أن يتولد لديهم الإصرار أن الفقير والمهمش يستحق نصيبا من جمال الأمكنة والفضاءات ومن ثم يستحق جهدهم التصميمي واستكشافاتهم الإبداعية واجتهاداتهم الفراغية. لا يجب أن نرضى أبدا عن عقاب الفقير والمهمش وأن نتراجع عن التعامل معه كإنسان يستحق الجمال. إنما نتعامل معه فقط من مدخل الاستجابة للاحتياجات المباشرة من منظور وظيفي بارد. تأمل ما يبنى للفقراء والمهمشين فتجد أننا نفرض عليهم مخزنا بشريا ونطلق عليها مساكن محدودي الدخل.
  
ومن يتاح له التعليم من هذه الفئات الفقيرة المهمشة نضعهم في صناديق خرسانية ونسميها المدرسة. وعندما يمرض يذهب إلى صندوق أكثر قبحا مكتوبا عليه لافتة "المستشفى العام". إن العبقرية الحقيقية للمعمار الهندي بالكريشنا دوشي كما كانت عبقرية المعمار المصري حسن فتحي، هي إيمانهم العميق باستحقاق الفقير والمهمش لبيئة مكانية معمارية عمرانية جميلة وملهمة تذكره بإنسانيته وأنه مكون له استحقاقات، ولم ولن ينسى من مكونات النسيج البشري للمجتمع والدولة والأمة. كما أن فوز دوشي بعد فوز المعماري التشيلي أليخاندرو أرافينا عام 2016 هو فوز للعمارة لأنه يعني أن التقدير ليس فقط من نصيب معماريي الصفوة ونجوم التشكيل ومصممي المتاحف مليارية الميزانيات، ولكن هناك تحول فارق يجعل الجائزة وللعام الثاني على التوالي تقدر صديق الفقراء ونصير المهمشين ومبدع محدودي الدخل. إن العمارة كمهنة سامية يجب أن تفتح أبوابها وبوابات إبداعها ليس فقط للصفوة الغنية القادرة مالكة المال والنفوذ والرأي والقدرة على البناء، ولكن والأهم يجب على العمارة أن تنحاز للقطاع الأكبر من المجتمع محدود الدخل دائما ومحدود الأمل أحيانا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.