شعار قسم مدونات

هل يجوز الترحم على ستيفن هوكينج؟

blogs ستيفن هاوكينج

منذ مدة قمت بزيارة مستشفى الأطفال، جناح المواليد الجدد والخدج بالتحديد، هناك لا شيء يعلو على صوت حناجر فتية لم تكمل نموها في الرحم وأجسام هزيلة مرضت عندما تنفست هواء العالم. كانت قاعة الانتظار تعج بأعين وجلة، وأياد تطلب من الله الشفاء العاجل لفلذات كبدها. أجسام تكاد تظهر من حناياها أفئدة مرتعشة متضرعة إلى السماء، تطلب الفرج. كانت رائحة الكحول والأدوية وأصوات الأجهزة تملأ المكان لتزيد من حزنه ورتابته لكنها كانت الأمل الوحيد، على إيقاعها تنبض قلوب صغيرة ملأت الحاضنات وعلى إيقاعها أيضا يتنفس الآباء والأمهات الأمل في شفاء زينة الحياة. 

 

ألم بي تعب أخذني إلى كرسي فارغ تبين فيما بعد أنه للممرضة المداومة، أحضرت كرسيا آخر وجلست إلى جانبي تكمل عملها لنبدأ تلك الحوارات المعتادة في ذلك الزمكان، عن تفشي الأمراض في الآونة الأخيرة والطب والعلاج والطعام المسموم بالمبيدات الذي صرنا نتناول والأمل والإيمان بالله وكل تلك الامور التي نملأ بها إحساس الفراغ الذي يسكننا في تلك الأمكنة. 

 

سألتها عن ابن قريبتي الذي كان يرقد هناك بسبب إصابته بصُفار حديثي الولادة، كان يبكي بحرقة لأنه افتقد ثدي أمه التي كانت ترقد بدورها في غرفة في طابق آخر، لكن العلاج كان أهم من الحليب آنذاك فكان من اللازم على المسكين أن يتعلم الصبر ويتعود على الجوع ريثما تنتهي حصة الأشعة الزرقاء التي كان معرضا لها. 

 

حقق العلماء الغربيون إنجازات منقطعة النظير خصوصا في المجال الطبي وذلك بفضل البحث العلمي الذي تصرف فيه نسب مهمة من الناتج الداخلي الخام، أكثر من التي تصرف في مجالات أخرى

ألقينا نظرة على المسكين عبر الزجاج الفاصل فأظهرت تأسفي الشديد لحاله. هدأت الممرضة من روعي وأخبرتني أن الرضيع جد محظوظ بآلة Phototherapy لأنه وقبل عشر سنوات فقط كان الأطباء يبدلون دم الأطفال الذين يعانون من الصُفار، فكانوا يحقنونهم بدم جديد بعدما يخرجون دمهم الأصلي، كانت العملية تستغرق على الأقل اثنتي عشر ساعة يعاني خلالها المولود كثيرا وربما يفارق الحياة. 

 

وجدت نفسي أبحث في محرك البحث عن اسم ذلك الإنسان الرائع الذي اخترع أو مهد لاختراع هذه الآلة التي صارت رحمة من السماء. الطبيب يدعي Richard Cremer إنجليزي الأصل، مهد لهذا الاختراع بعدما لاحظ أن أشعة الشمس تقلل من الصفار- Jaundice وتساهم بشكل كبير في علاج المواليد الجدد. شعرت بامتنان كبير تجاه هذا الإنسان الذي توفي قبل أربع سنوات لكنه رحل وبقي الأثر والكثير من الشكر والامتنان له أينما كان. 

 

نفس الشيء بالنسبة لمخترع جهاز تصفية الدم لمرضى الفشل الكلوي وجهاز العلاج بالأشعة والكيماوي وغيرها بالنسبة لمرضى السرطان وغيرهم ممن اخترع شيئا سينفع البشرية كلها إلى يوم الدين. رزقنا الله بالعقل وأمرنا بإعماله والتدبر في الكون لسبر أغواره والكشف عن خباياه ابتداء بخبايا هذا الجسد الذي يحملنا. 

 

حقق العلماء الغربيون إنجازات منقطعة النظير خصوصا في المجال الطبي وذلك بفضل البحث العلمي الذي تصرف فيه نسب مهمة من الناتج الداخلي الخام، أكثر من التي تصرف في مجالات أخرى كالتسلح عكس الدول العربية التي تصرف مجتمعة نسب جد هزيلة في البحث العلمي وتكتفي باستيراد واستهلاك أشكال الحداثة على اختلافها بل ولازالت تتخبط في مشاكل عويصة في التعليم والصحة وتتذيل ترتيب الدول مما ينعكس سلبا على مجتمعاتها ويرمي بها في حلقة مفرغة من التخلف دامت لعقود طويلة. 

 

لن تتقدم الدول ما دامت تستورد الحداثة من الخارج، الحداثة يجب أن تكون وليدة الدولة التي ستتبناها، فاليابان مثلا استطاعت جمع أشلائها بعد الحرب العالمية الثانية وصارت من بين أعظم الاقتصادات العالمية التي لا تمتلك في المقابل إلا القليل من الموارد الطبيعية لكنها تبنت نظاما خاصا بها وأنشأت الحداثة في الداخل لتصير على ماهي عليه اليوم. نفس الشيء بالنسبة لدول أخرى مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها من الدول التي استثمرت كثيرا في التعليم والبحث العلمي وراهنت عليهما مما شكل نهضة ثقافية وحضارية منقطعة النظير. 

 

أما بخصوص ستيفن هوكينج الذي انطفأت شمعته هذا الأسبوع فقد استطاع وهو على كرسي متحرك تحقيق مالم نستطع نحن معشر الأصحاء تحقيقه، ولمع نجمه في مجال في غاية التعقيد رغم إعاقته الكاملة، وأما بخصوص جواز الترحم عليه من عدمه والذي كان محور نقاشات ساخنة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الأخيرة فذلك شيء لا يخصنا لأننا لا نملك مفاتيح الجنة كما أننا لسنا أهلا لمنح الرحمة أو نزعها من أحد. 

 

تحدى ستيفن هوكينج الإعاقة الكاملة واشتغل على أبحاث فريدة من نوعها وألف مؤلفات تنظر لظواهر فيزيائية لا زالت تعطي أُكلها لحد الساعة
تحدى ستيفن هوكينج الإعاقة الكاملة واشتغل على أبحاث فريدة من نوعها وألف مؤلفات تنظر لظواهر فيزيائية لا زالت تعطي أُكلها لحد الساعة
 

المضحك-المبكي في الأمر هو طريقة تعامل معظمنا مع وفاة واحد من ألمع علماء عصره، كلنا نتكلم عن الجنة والنار دون أن نسلط بضوء انتقاداتنا على أنفسنا. ها حقا نحن معشر المؤمنين حققنا الرسالة التي خلقنا الله جل وعلا من أجلها؟ هل تدبرنا في ملكوت الله وأعملنا العقل واكتشفنا الأدوية والثقوب السوداء ومسارات الكواكب؟ هل تدبرنا في أنفسنا واختلاف الليل والنهار ومواقع النجوم وعسل النحل والمد والجزر وغيرها لكي نزيد في كل مرة تقربا من الله سبحانه وكي نخرج باختراعات واكتشافات تخفف من آلام البشرية وتسهل لها حياتها وتخرجها من براثن الجهل إلى نواقيس النور؟

 

استطاع العالم الراحل تحقيق مالم نستطع نحن كأمة واحدة أن نحققه. تحدى الإعاقة الكاملة واشتغل على أبحاث فريدة من نوعها وألف مؤلفات تنظر لظواهر فيزيائية لا زالت تعطي أُكلها لحد الساعة، هذا كله من خلف كرسي متحرك لو وضع فيه شخص عربي لكان النسيان والإهمال من نصيبه ثم لكان قد وضع أمام مسجد لنتسول به ونجمع بفضله المساعدات الإنسانية. من العيب أن نفعل ما فعله داعية أمضى حياته يدعو على الغرب الكافر ليتوجه إليه مع أول انتكاسة صحية ويقضي شهورا طويلة في مستشفياته ينعم برعايتهم المشددة وعملهم المتقن في مجال الطب. 

 

السؤال الذي يجب أن نطرحه حقا ليس هو وجوب الترحم على هوكينج أم لا أو إذا كان بإمكاننا كتابة RIP STEPHEN أم لا، بل حري بِنَا أن نسائل أنفسنا إذا كنا فعلا على المسار الصحيح، إذا كان لزاما علينا التوقف عن نقل "الحداثة والعلوم " و استيرادها واستهلاكها عِوَض إنتاجها والاستثمار في العلم والبحث الذي بدونه سنظل حتما قابعين في مكاننا ننتظر أن يخترع الآخرون أشياء أخرى كي ندَّعي بمفخرة عبيطة  أن أول شخص طور الرياضيات والفلك كان مسلما، وأننا كنا يوما في الماضي حضارة قائمة بذاتها ونبكي بفرح عبيط على الأطلال. 

 

لو قضينا الأسبوع الفارط في قراءة كتب ومحاولة تأليف أخرى عِوَض مناقشة أحقية ستيفن بالرحمة لاستطعنا زيادة نسبة ولو بسيطة في معدل القراءة والبحث العلمي في وقت صار فيه الكيان الاسرائيلي الذي ُأسس منذ عقود قادرًا لوحده على طباعة كتب أكثر من الدول العربية مجتمعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.