قبل عشرات آلاف الأعوام، تحديدًا مع بداية ظهور البشر على الأرض، وكما ذكرت مُعظم الكُتب الدينية، أن الإنسان خُلق على هيئتِه، ولم يكُن بالطبع لدى الإنسان كثيرٌ من الخبرات التي يمتلكُها اليوم.. لكن كانت الحياة بسيطة لا تحتاجُ لكثيرٍ من التعقيدات، يتزوَّجُ ذكرٌ من الولادة الأولى من أبناء آدم أنثى من البطن الثانية، وذكرُ البطن الثانية مع أنثى الأولى، وهكذا.. وكانوا يقتاتون ممَّا تُخرجه لهم الأرض دون عناءٍ كبير..
لكن ولأنَّ طبيعةُ البشرِ مجبولةٌ على التطلُّع والتسامي، فإنّ قابيل ولد آدم لم يكُن ليرضى بتلك القِسمةُ التي تقضي بأن يتزوَّجَ هابيلُ أخاهُ من الأخت الجميلة التي وُلدت معه في نفس البطن.. ولم يقتصر الأمر على الاعتراض، بل تعدَّاهُ إلى أن هدَّدَ قابيلُ أخاهُ بالقتل! كان هابيل مُدرِكًا لتلك الجريمة، فلم يكُن يرضى أن يُلوِّثَ يده بقتل أخيه.. لكن قابيل لم يكُن مُدرِكًا ذلك الذنب الذي هو على وشكِ اقترافه، لم يكُن يعلمُ ماذا يعني أن ترتكب أوَّل جريمة قتلٍ على الأرض، لم يكُن بصيرًا بما يكفي حتى يُحدِّدَ ما سيعقُبُ تلك الحادثة.. حمل قابيلُ حجرًا ثم ضرب به هابيل، ليسقُطَ قتيلًا.. لتكون المرَّةُ الأولى التي يقتُلُ فيها إنسانٌ إنسانًا..
أوَّلُ طبيبٍ في العالم هو المصريّ "إمحوتب" الذي استطاع أن يُشخِّصَ كثيرًا من الأمراض.. ولم يقتصر الأمر عليه، بل تفوَّقَ الفراعنةُ كثيرًا في هذا العلم، حتى أنهم استطاعوا إجراء أقدم العمليَّات الجراحيَّة |
تعاقبت الأجيالُ وتوالت السّنون، وظلَّت تلك الحقيقةُ هي الوحيدة التي لا يُمكنُ إنكارها، على الرغم أنَّه لا أحد يعلم أين ولا كيفَ ولا حتى متى تحين.. وأصبحت الحقيقةُ التي يؤمنُ بها الجميعُ رُغم اختلاف عقائدهم وشرائعهم.. وشأنُها شأنُ الكثير من الحقائق الغريبة، كلٌّ يؤمنُ بها على حسبِ ما يعبُد، فالأديان السماويَّةُ يعتقدون أنّ الله تعالى يقبضُ الروح من الجسد، فيصير الجسد بلا حركة، وعلى ذلك فإنَّ شرائعهم تقولُ بأن يُدفنَ جسدُ الميِّت إلى أن يحين موعدُ التقاء الروح بالجسد مرَّةً أخرى فيما يُعرفُ بيوم القيامة.. وهُناك أيضًا طائفة "الدروز" الصوفية، الذين يعتقدُون بأنَّ الروح بعد الموت تذهب إلى جسدٍ آخر لتستكمل دورها في الحياة بعيدًا عن الجسد، "نظريَّة تناسُخ الأرواح".. وهُناك أيضًا بعض الديانات التي تقوم بحرق جُثث الموتى.. لكن أيًّا كان التقليدُ المُتَّبع في طريقة التخلُّص من جُثَّة الميّت، فهُناك دائمًا تقديسٌ يلحقُ بتلك الفكرة.. فكرة الانتهاء، أو الفناء كما يعتقدُ البعض..
كان الإنسانُ دائمًا ما يسعى إلى الخلود، أو ربَّما الحياة لفترةٍ أطول.. كان مشغولًا بتأمين نسلِهِ كما هو الحال مع بقيَّة الكائنات، غريزة البقاء تُسيطرُ عليه.. كان دائمًا يحاولُ إيجاد طريقةً للخروج من ذلك الممر الذي يؤولُ بهِ في النهاية إلى الموت.. فصنع الأسلِحةَ للدفاع عن نفسِه في مواجهةِ أخطار الطبيعة، وكذلك حاول تأمين طعامه حتى يكفيه لفتراتٍ أطول.. ولمَّا كانت الحياة ستُصبحُ أسهل بالمُشاركة.. كان على الإنسان أن يعيش في جماعاتٍ وقبائل.. لكن سُرعان ما اكتشف الإنسانُ أنَّ تأمين الطعام والأمان ليس بالأمر الكافي للبقاء مدَّةٍ أطول، وأنَّ هُناكَ أخطارًا قد تكون أكثر فتكًا من الجوع.. كانت الأمراض مصدرًا لقلق البشريَّة منذُ مهدِها، ذلك الشيء الذي يُصيبُ الجسد فيتلف أجهِزته، وبعد مُعاناةٍ مع ألمٍ شديد، يؤول الإنسانُ إلى الموت! لذا كان على البشرِ أن يجدوا حلًّا لهذا الخطر المُرعب..
أخذت البشريَّةُ على عاتقها هذا الأمر مُبكِّرًا، حيثُ استحدثوا علم الطب الذي يُعدُّ من أهمّ وأقدم العلوم على الأرض.. وكعادة قُدماءِ المصريِّين أن يكون لهم السبقُ في كثيرٍ من الأشياء.. كان أوَّلُ طبيبٍ في العالم هو المصريّ "إمحوتب" الذي استطاع أن يُشخِّصَ كثيرًا من الأمراض.. ولم يقتصر الأمر عليه، بل تفوَّقَ الفراعنةُ كثيرًا في هذا العلم، حتى أنهم استطاعوا إجراء أقدم العمليَّات الجراحيَّة، وهي ما تُعرف بعمليَّة النقب، التي كانت تهدُفُ إلى تخفيف الضغط عن الجمجمة..
وفيما نُعاصرهُ الآن، وفي القرون القريبة منَّا، استمرَّت البشريَّةُ في إيجادِ حلولًا للأمراض، فقام العُلماء باكتشاف المُضادات الحيويَّة لمواجهة البكتريا، والأمصال لمواجهة الفيروسات.. لكن يبدو أنَّ هذا الأمر لم يكُن كافيًا لمواجهة الموت، حيثُ أنَّ هُناك بعض الأمراض التي كانت أقوى من أن نُقاومها، والتي قضت بدورها على شعوبٍ وأممٍ كاملة، حتَّى أن ضحايا مرض الطاعون فقط ما يُقارب 200 مليون شخص.. كان يُسمَّى بالموت الأسود، حتى أن النبي (صلى الله عليه وسلَّم) حذَّر منه..
ظلَّت هُناك بعض الأمراض التي لم نستطع التغلب عليها.. تلك الأمراض تُصيبُ الأجهزة الحيويَّة بالتلف، كالفيروسات الكبدية الوبائيَّة، أو حتى الأمراض التي تحدُثُ بسببٍ غير الميكروبات، كالفشل الكُلويّ.. كانت وقتها الأمورُ تحتاجُ إلى مزيدٍ من التفكير في أكثر من مجرد مواجهة الأمراض والقضاء عليها، كان علينا أن نجد طريقةً نستبدلُ بها الأعضاء التالفة بأخرى صالحة لاستكمال الحياة!
داعبت تلك الفكرة أذهان العلماء طويلًا، لكن لم يكُن الوضعُ مُهيَّئًا للقيام بمثل تلك العمليات في السابق، وعلى الرغم من هذا، فإن هناك بعض التقارير التي تذكُر أنَّ هُناك من قام بتلك العمليَّة قديمًا.. لكن البداية الحقيقيَّة لتوثيق تلك الظاهرة كانت في عام 1596م، حيثُ ذكر الجراح الإيطالي "جاسبارو تاجلياكوزي" أنه استطاع إجراء عمليَّة زراعة جلد ناجحة.. وفي عام 1837م أجريت أوَّل عمليَّة زراعة قرنيَّة العين لكنها أجريت على عين غزال.. وفي عام 1905م يقوم الجرَّاح "إدوارد زيرم" بأول عملية ناجحة لزراعة قرنية عين لإنسان، وأطلق عليها حينها عمليَّة ترقيع القرنيَّة.. وفي مطلع القرن العشرين.. قام الجراح الفرنسي "أليكسيس كاريل" و"تشارلز جوثري" بابتكار التقنية الجراحية لزراعة الأعضاء من خلال عملية زراعة الشرايين أو الأوردة.. أحدثت تلك الاكتشافات ثورة كبيرة في عالم الطب، كانت ملاذًا قويًّا لأصحاب الأمراض المُستعصية، حيثُ يُمكنهم الآن أن يستبدلوا أعضائهم التالفة بأخرى سليمة.. لكن ظهرت مُشكلة جديدة!
بينما نجح "كاريل" في عمليات تجريبية لنقل الكلى والقلب والطحال على الكلاب جراحيًا، إلا أنه انتبهَ إلى مشكلة من شأنها أن تنهي كلّ شيء.. الجسم يرفض العضو المزروع!! وفي ثلاثينيات القرن العشرين، قام الجراح الأوكراني "يو يو فورونوي" بإجراء أول محاولة لزراعة أعضاء من أحد المتبرعين المتوفين، ولكن رفَضَ جسد المتلقي للعضو المنقول، مما أدى إلى فشل العملية برمتها..
بالرغم من كون عمليَّة نقل الأعضاء من أهمّ إنجازات الطبّ، إلا أنها لم تُحقق الإنجاز بعد.. ما هي إلا تحايلٌ لإطالة مدَّةُ حياتنا مزيدٌ من الوقت، لكنها لا تُحقق الهدف الأكبر.. لا تُحقق الخلود! |
وفي عام 1954م.. قام كل من الجراحين "جوزيف موراي" و"جي هارتويل هاريسون" بإجراء أوَّل عملية ناجحة لزراعة عضو، حيثُ تم زراعة كلى بين توأمين متماثلين.. ومن هذا المُنطلق، استطاع "بيتر ميداور" الذي كان يعمل في المعهد الوطني للبحوث الطبية، بتعديل مفهوم رفض الجسم للعضو المزروع.. استنادًا إلى مفهوم ردّ الفعل المناعي.. اقترح "ميداور" إمكانية استخدام الأدوية المثبطة للمناعة حتى يتمكَّن الجسم من قبول العضو المزروع، مما أدى إلى نجاح تلك العمليات..
كان نجاح عمليَّات نقل الأعضاء ثورة طبية بكلّ المقاييس، كان أملًا قويًّا وحائطًا صلبًا يستطيعُ أن يستند عليه ذوي الأمراض المُزمنة.. لكن دائمًا هناك ما يشوب كلّ نجاح.. فقد زاد احتياج البشر إلى الأعضاء كثيرًا، ولم تعُد تلك الأعضاء التي يتبرَّعُ بها الموتى تكفي.. فزادت عصابات تجارة الأعضاء، تلك الجريمة التي تقومُ أغلبها بخطف الأطفال وحتى الكبار، ثم بيع أعضائهم التي تُقدَّرُ قيمتها بالملايين.. على الرغم من أن هذا الأمر يبدوا صادمًا.. إلا أنه لا زال يُتَّبع حتى الآن.. لكن يُحاولُ العُلماء إيجاد طُرقٍ أخرى لتخليق الأعضاء..
كانت تلك الطُرق تتمثَّلُ في إيجاد بدائل لعملية زرع الأعضاء.. والتي يُمكنُ أن تتم بواسطة نقل أعضاء الحيوانات، هذا الأمر الذي تحدَّثتُ عنه في السابق في مقال "عندما يعيش الإنسان بقلب خنزير".. أو حتى عن طريق تخليق الأعضاء من خلال الخلايا الجزعية غير المُكتملة، والتي توجد داخل الأجنة في أسابيع تكوينها الأولى.. لكن وبالرغم من كون عمليَّة نقل الأعضاء من أهمّ إنجازات الطبّ، إلا أنها لم تُحقق الإنجاز بعد.. ما هي إلا تحايلٌ لإطالة مدَّةُ حياتنا مزيدٌ من الوقت، لكنها لا تُحقق الهدف الأكبر.. لا تُحقق الخلود!
في سبعينيات القرن الماضي.. وأثناء ما كان "ماكس مور" المدير التنفيذي ورئيس شركة "ألكور" التي تعني بحفظ وتجميد الأعضاء، يُشاهدُ برنامجًا تلفزيونيًا خياليًا، يتحدَّثُ عن أشخاصٍ تمّ تجميدهم في الجليد، وبطريقةٍ ما استطاعوا السفر إلى المُستقبل.. لمعت تلك الفكرةُ في رأس "مور".. فإن كان من الممكن الاحتفاظ بالأعضاء، ما الذي يمنع أن يُحفظَ الجسد كاملًا، ومن ثمّ إعادة إحياؤها في المُستقبل؟! هذا الأمر يُعرف بظاهرة "كرايونيكس"، أو ما يُسمَّى بتوابيت الخلود!!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.