شعار قسم مدونات

تداعيات الأزمة الخليجية علي البحث العلمي والشباب

مدونات - طلاب قطر
 
 
 
 
ما من فائز في الصراع الحالي بين قطر وبعض الدول العربية، ولكنَّ البحث العلمي والباحثين وشباب المنطقة هم بالتأكيد أكبر الخاسرين. منذ صدور قرار المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومعهم مصر في يونيو الماضي بقطع جميع العلاقات مع قطر فقد طُلب من باحثي دول المقاطعة التوقف عن التعاون مع الباحثين في قطر أو عن نشر مقالات بحثية بالمشاركة معهم حتى وإن كان تعاونهم المشترك مكتمِلًا. صحيح أنَّ حجم هذا التعاون صغير إلى حدٍّ ما، ولكنه كان في ازدياد مطَّرد يبشِّر بالخير.
 
خلال السنوات التي سبقت الحصار، اتخذت الأوساط العلمية في دول مجلس التعاون الخليجي خطوات استباقية لتعزيز التبادل والتعاون في كلٍّ من التعليم العالي والبحث العلمي في أنحاء المنطقة. في قطر على سبيل المثال، استثمرت مؤسسة قطر في سلسلة من المبادرات لتعزيز الابتكار التقني وجعل قطر وجهة للعلماء ورجال الأعمال والمستثمرين من جميع أنحاء المنطقة. وعلى مدى السنوات التسع الماضية موَّلت قطر "برنامجًا تعلميًّا ترفيهيًّا" في العرض التلفزيوني "نجوم العلوم"، الذي يُبثُّ على سائر المنطقة العربية، وهو مسابقة بين رواد العلوم والتكنلوجيا الشباب، إذ يحصل الفائزون الذين يأتون في غالب الأحيان من خارج قطر (بما في ذلك جميع البلدان التي تقود الحصار) على تمويل أولي كبير لمشروعهم بهدف مساعدتهم على تسويق ابتكاراتهم.
 

يمكن أن يعزِّز الحصار ومشاعر الكراهية بين هذه الدول الصورة السلبية على الصعيد الدولي لمنطقة لا تتوفر فيها العناصر الرئيسة لتحقيق التفوق العلمي والابتكار، وأهمها حرية التعبير والاستقرار والانفتاح

وفي الآونة الأخيرة، أطلقت مؤسسة قطر "الأكاديمية العربية للابتكار" بالشراكة مع أكاديمية الابتكار الأوروبية؛ والأكاديمية هي برنامج تدريبي لمدة أسبوعين لطلاب الجامعات الطموحين من جميع البلدان العربية، إذ تقدِّم لهم تجربة حيَّة عن كيفية تطوير مشاريع جديدة قائمة على التكنولوجيا ثمَّ إطلاقها بدعم من خبراء ومستثمرين دوليين.

 

وكباحثين وعلماء من أبناء المنطقة كنَّا نشعر بسعادة غامرة لرؤية مثل هذه المبادرات، وكنا نأمل أن تمهِّد الطريق لمزيد من التنسيق الإقليمي الاستراتيجي والتعاون في مجال العلوم والبحث العلمي والتطوير. ولكن إن لم تُحلَّ الأزمة الحالية بسرعة فمن المحتمل أن تذهب هذه الجهود أدراج الرياح.
 
علاوة على ذلك، تعدُّ الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية من أكثر الدول التي تستضيف المؤتمرات والمعارض العلمية الدولية في الشرق الأوسط. وتوفر هذه الفعاليات للطلاب والباحثين والمؤسسات في المنطقة فرصًا فريدة لاستكشاف الآفاق العلمية الجديدة والاتجاهات العصرية في التعليم العالي، بالإضافة إلى تعميق التواصل المشترك. ولهذا فإنَّ الحظر الحالي المفروض على السفر لا يمنع الباحثين من دول مجلس التعاون الخليجي من تبادل الخبرات فحسب، بل يجعل المؤتمرات والفعاليَّات العلمية في هذه البلدان أقلَّ جذبًا للباحثين الأجانب، ولاسيَّما أنَّ الكثير من المشاركين والمؤسسات الدولية الشهيرة تستفيد من هذه الفعاليَّات للتعرف على حالة التعليم العالي والبحث العلمي في المنطقة بأسرها، بالإضافة إلى استكشاف فرص تعاون جديدة وشراكات استراتيجية.
 
وفي الواقع، يمكن أن يعزِّز الحصار ومشاعر الكراهية بين هذه الدول الصورة السلبية على الصعيد الدولي لمنطقة لا تتوفر فيها العناصر الرئيسة لتحقيق التفوق العلمي والابتكار، وأهمها حرية التعبير والاستقرار والانفتاح. فإذا أمكن إغلاق الحدود وتجميد جميع أوجه التعاون بين عشية وضحاها دون النظر بعناية في تأثيرها على عمل الباحثين ومسيرتهم العلمية ورفاههم، فلماذا سيخاطر الطلاب الموهوبون والأكاديميون والمتميزون من داخل المنطقة وخارجها برهن مستقبلهم بها؟

 

شعوب هذه المنطقة مرتبطة مع بعضها البعض بالقرابة وبالثقافة والجغرافيا، تبعث الأمل في أن تمرَّ الأزمة مثل سحابة صيف وأن تُحلَّ خلافاتهم سريعًا
شعوب هذه المنطقة مرتبطة مع بعضها البعض بالقرابة وبالثقافة والجغرافيا، تبعث الأمل في أن تمرَّ الأزمة مثل سحابة صيف وأن تُحلَّ خلافاتهم سريعًا
 

لقد عانت جميع دول مجلس التعاون الخليجي من مشكلة تطوير آليات فعَّالة لجذب باحثين علميين على المستوى الدولي واستبقائهم بسبب عدم وجود آليات لمنحهم وعائلاتهم شعورًا بالانتماء للبلد؛ بيد أنَّ هذا الافتقار إلى الاستقرار والأمن، الذي يحدُّ من فرص سعي هؤلاء الباحثين لتحقيق أهداف شخصية وعلمية ومهنية طويلة الأجل، لن يؤدي إلَّا إلى تفاقم المشكلة.
 
وهذه القضية شائكة بشكل خاص نظرًا لعدم اهتمام الشباب في بلدان مجلس التعاون الخليجي أنفسهم بمتابعة حياتهم المهنية في مجال البحوث العلمية. فمن دون الأجانب ستفتقر هذه البلدان إلى القدرة على الاكتفاء الذاتي في مجال البحث العلمي، وإلى وضع برامج بحثية تنافسية ذات تأثير يتجاوز محيط سكانها وحدودها. ولكنَّ الاستفادة من رأس المال البشري في البلدان المجاورة وتنسيق استثماراتها في مجالات العلوم والبحث والتطوير كان يمكن أن يساهم في إنجاح تمكين دول الخليج من تحقيق ذلك.
  

 
على المجتمع العلمي الدولي مواصلة إشراك باحثي المنطقة ودعم عملهم والتعاون معهم، فوجود مشروع علمي حيوي في هذا الجزء من العالم لن يوفر فحسب إمكانات جديدة للجيل القادم

يقلِّل الانخفاض الكبير في أسعار النفط من فرص احتمالية تمكُّن أي من دول مجلس التعاون الخليجي بمفردها من الوفاء بالتكاليف المالية المتزايدة لبناء البنية التحتية للبحوث والتطوير أو لاستدامتها. وعلى أرض الواقع، لوحظ تراجع معظم هذه الدول عن مشاريع طموحة أو تأخير إطلاق مشاريع جديدة، علاوة على توقف مشاريع نشر المعرفة العلمية بين شعوب المنطقة.
 
ثمَّة تحديات مشتركة بين دول مجلس التعاون الخليجي في مجالات الصحة والاقتصاد والبيئة والطاقة والأمن، ولديها أيضًا بعض الفرص الفريدة التي يمكن أن تعطيها قصب السبق في بعض مجالات البحث العلمي. ففي مجال الصحة، على سبيل المثال، بسبب ارتفاع نسبة زواج الأقارب وأنماط الحياة المشتركة بين سكانها، إلى جانب مواردها المالية العامة الكبيرة، يمكن إحراز اكتشافات علمية جذرية إن استفاد منها الباحثون كما يجب في علميْ الوراثة والوبائيات، ولاسيَّما في مجالات مثل داء السكري والبدانة والأمراض الوراثية النادرة.
 
بطبيعة الحال، فإنَّ حقيقة كون شعوب هذه المنطقة مرتبطة مع بعضها البعض بالقرابة وبالثقافة، بالإضافة إلى الجغرافيا، تبعث الأمل في أن تمرَّ الأزمة مثل سحابة صيف وأن تُحلَّ خلافاتهم سريعًا. ولكن حتى حصول ذلك، يجب أن يبقى الباحثون العلميون استباقيين فيما بينهم وأن يبذلوا قصارى جهدهم للحفاظ على علاقاتهم مع أقرانهم ومع المؤسسات في المنطقة؛ فعندما ينتهي الصراع السياسي سيُطلب منهم القيام بأدوار مهمَّة وريادية في رأب الفجوة السياسية وتحفيز عملية المصالحة.
 
وينبغي أيضًا على المجتمع العلمي الدولي مواصلة إشراك باحثي المنطقة ودعم عملهم والتعاون معهم، فوجود مشروع علمي حيوي في هذا الجزء من العالم لن يوفر فحسب إمكانات جديدة للجيل القادم في الشرق الأوسط، بل سيقدم فرصًا علمية مهمَّة على الصعيد العالمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.