شعار قسم مدونات

العُودة في السجن وتامر يغني في أرض الكعبة

blogs - سلمان العودة
"بعد أكثر من أربعة أشهر على الاعتقال في سجن انفرادي في ذهبان بجدة.. اليوم بالفعل تأكد لي خبر نقل العودة للمستشفى" هذا ما نقلهُ لنا نجل الدكتور سلمان العودة عن والده حفظه الله قبل شهرين تقريباً عبر صفحتهِ في " تويتر". وغرّد عبد الله نجل الداعية في الشهر المُنصرم أنّهم قد تلقوْا اتصالاً من والدهم يُطمئنهم على صحتهِ وسلامته.
 

أيُعقلُ أن يصبح دعاة الإسلام وعلماء الأمه سجناء لقولهم الحق؟ أوأصبح الإسلامُ جريمةً حتى يؤانس علماءنا بعضهم بعضاً بين حيطان السجون؟ إن تغريدةً واحدة من شيخنا سلمان العودة كانت كفيلةً أن يُزج به في سجون المُسلمين وسبب اعتقاله يعود لرفضه إملاءات سلطات بلاده بكتابة تغريدة تؤيد حصار قطر، وقيامه بكتابة تغريدة تدعو لإصلاح العلاقات الخليجية كما نقل عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية. الدكتور سلمان العودة يعاني في سجنه ويلقى الأمرّين في زنزانته التي وُضع فيها مكبلا بالأصفاد في يديه وأقدامه.

 

بعد متابعتي أخبار المعتقلين من علماء المسلمين في السجون وزجهم من المخالفين والمجرمين عادت بي ذاكرتي إلى عصر الخلافة العباسية وخاصة في عهد المأمون ابن هارون الرشيد الذي تقبلّ المُعتزلة وأيّدهم ودعمهم وأعلى كلمتهم في دولة الخلافة حتى أصبحوا أصحاب الأمر وصناع القرار بل وضيّقوا على المسلمين في بيوتهم وأخمدوا أصوات العلماء وأظهروا فكرهم وعقيدتهم بدعمٍ من أمير المؤمنين ذاته وبدأوا نشر فكرهم وبدأوا فتنة "خلق القرآن".

 

قصة الإمام أحمد ليست مجرد قصة وليست حكاية تُحكى ويُمر عليها مرور الكرام، بل إن هذا الصمود كان صمود أمه وثبات دين ورد كفر

وحين تولى المعتصم بالله زمام الدولة الإسلامية فقد أكمل وصية أخاه واستمر في دعم المعتزلة والتضييق على أهل السنة والجماعة في بغداد فكان المعتصم رجل حرب وسلاح ولم يكن رجل دينٍ وسياسة. في تلك الفترة زاد بطش المعتزلة وجورهم وعلى رأسهم احمد ابن أبي دؤاد وقد بدأوا نشر فكرهم وتحفيظها للناس بل وإجبارهم على الاعتراف بها علانية وقد تم استدعاء علماء بغداد إلى الخليفة يسألهم عن هذه القضية إلا أن أغلب العلماء في الفتنةِ سقطوا وخافوا بطش الحاكم ولم يخافوا بطش ربهم.

 

ولقد صمد في الفتنة تسعة علماء، سقط سبعة وتبقى منهم اثنين فقط وهم الإمام أحمد بن حنبل وصاحبه محمد بن نوح اللذان تمسكا بوعد الله وصمدا عن تلك الفتنة، إلا أنّ ابن نوح قد توفاه الله قبل أن يصل إلى المعتصم في قصره. أما الإمام أحمد فقد سافر وحيدا ووضع في سجنه مكللا بالأصفاد يأبى أن يأكل ويشرب من طعام من ظلموه. حتى قابل الخليفة وطلب منه مناظرة علماء المعتزلة فلم يكن لهم عليه من سبيل فقد رد كل كلامهم وأسكتهم جميعاً حتى أغضب ذلك المعتصم وأعاده للسجن وطلب منه أن يعود عما هو فيه، إلا أنه صمد وبقي على رأيه. فلقد علم الإمام أنه إن سقط العلماء في الفتنة فقد سقط الناس وراءهم وغُيّر عليهم دينهم.

 

لقد جُلد الإمام أحمد وضرب ضرباً مبرحا في نهار رمضان حتى فقد ذاكرته وانهار، إلا أن الله أمده بقوةٍ من عنده وصبراً وعزما حتى بقي على كلمة الحق، وما أجمل ما قاله الإمام عليّ بن المدينيّ واصفا ثبات ابن حنبل: "أيَّد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة".

 

اشتد الأمر على أهل بغداد فمُنع الإمام أحمد من الخروج للدرس والاجتماع للنَّاس مدة تزيد على خمس سنوات حتى توفي الواثق 232هـ.
اشتد الأمر على أهل بغداد فمُنع الإمام أحمد من الخروج للدرس والاجتماع للنَّاس مدة تزيد على خمس سنوات حتى توفي الواثق 232هـ.
 

قصة الإمام أحمد ليست مجرد قصة وليست حكاية تُحكى ويُمر عليها مرور الكرام، بل إن هذا الصمود كان صمود أمه وثبات دين ورد كفر. بعد كل التعذيب والتضييق الذي مر به الإمام أحمد عاد إلى بيته وإلى التدريس إلى أن مات المعتصم وبعدها تولى الخلافة الواثق الذي أظهر ما أظهر من المحنة واستمرارها والميل إلى ابن دؤاد "رأس المعتزلة" وأصحابه.

 

واشتد الأمر على أهل بغداد فمُنع الإمام أحمد من الخروج للدرس والاجتماع للنَّاس فانقطع الإمام أحمد عن التدريس مدة تزيد على خمس سنوات حتى توفي الواثق 232هـ. حتى جاء الخليفة المتوكل ورفع هذه الفتنة وكرّم علماء السنه والجماعة وضيّق على من كفر بالله وآياته وغير قول الله وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السُفلى.

 

ما ذكر آنفاً قد حدث في زهوة الخلافة الإسلامية وفي زمنٍ كان به الإسلام سائدا منتشرا عظيما، وقد فُتن الناس وفتن العلماء وسقط منهم من سقط وصمد منهم من صمد. إن آخر الاخبار التي قرأتها كانت عن إنشاء حفل موسيقي "لتامر حسني" في بلاد الحجاز بلاد الحرمين الشريفين أرض الكعبة ومدينة رسول الله وقبلة المسلمين في العالم أجمع، ولا بد أن جميعنا قد رأى مقاطع الفيديو التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وغيرها لأهل المملكة السعودية وهم يتهافتون على منصات بيع التذاكر وكأنما جاءوا استقبالا لخيلفة المسلمين في أرض الحرم الشريف.

 
ومما يّذهب العقل أن منظمي الحفلة قد وضعوا شروطاً إن دلت فإنما تدُل عن "غباءٍ لا مثيل له" ومن هذه الشروط: "أن لا يتم التمايل وأن ينفصل الذكور عن الإناث، والأدهى من ذلك أن تُقام صلاة العشاء بعد الحفل مباشرة". وهل حلل علماء السعودية ما حرمّ الله؟ وهل أفتى مفتي السعودية بإباحة الغناء والتزمير في أراض الكعبة الشريفة؟ ليس غريباً أن نرى بعد سنتين أو ثلاث مسابحا مختلطةً في أرض مكة ومسيرات للشواذ وغيرهم إن كان قد دخل الغناء والحفلات الماجنة أراضي القبلة فهل هناك حرج على باقي بلاد المسلمين؟

  undefined

 

شيخنا العودة وعدد كبير جدا من علماء المسلمين ينتظرون فرج الله عليهم من وراء القضبان يدعون الله الثبات والصمود في زمن الفتنة والظلم والقهر، زمن أصبح فيه المسلم مجرما والإسلام دين إجرام وعلماء المسلمين في السجون .يا صاحب السجن أيُوضع حافظٌ لكتاب الله وعالم بدينه وراء قضبان الحديد ويترك من يقوم بتنميص حاجبيه كالنساء يعلو على المنصات والمسارح ويُجمعُ الناس حوله؟

 

إن شيوخنا يعانون كما عانى الإمام أحمد وصحبه في الماضي ولا أُزيكهم على الله وإنما أقول ما أرى وأسمع وما أقرأ، فإن الساكت عن الحق شيطانٌ لا محال وإننا نرى في أيامنا هذه من هم كابن أبي دؤاد وصحبه ممن طغوا وتجبروا وأرادوا إعلاء كلمتهم وتغيير كلام الله وأوامره، إلا إن نور الله باقٍ وشرع الله دائم ودين الله لا يُغير ولا يُحرف إلى قيام الساعة.

 

هل يبقى علماءنا على صبرهم كما صبر الإمام وأصحابه؟ أم يسقطوا كما سقط غيرهم والعياذ بالله؟ نسألُ الله أن يشُد عضدهم ويحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وأن يُعلي كلمة الإسلام وشرع الله، وأن يظهر الإسلام حقيقياً كما أتممه علينا نبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه. أما علماء السلاطين وأتباعهم فنقول لهم: "أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ "وأمّا علماء الإسلام فنقول لهم كونوا كابن حنبل فقد قال فيه إسحاق بن راهويه: "لولا أحمد وبَذْل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.