أتعلمون أن النهايات الناقصة أشد فتكًا وألمًا من الموت نفسه؟، لذلك عليكم أن تقولوا كلماتكم الأخيرة، سطروا وصاياكم واكتبوا فيها ما شئتم من جرعات تقييكم وأحبابكم ألم الفراق أو على الأقل تكفي لفترات غياب أطول، اذرفوا دموع الوداع، ضمّوا أحبتكم وامنحوا عناق الرحيل حقه، فنقصُ مناسك الوداع سيبقيكم معلقين في الانتظار ثم الانتظار.. إلى أن تجف البحار وتكشف ما في بطونها من أوجاع.
هنا داخل أسوار المدينة التي تعد أكبر سجون العالم، لا تنتهي الحكايات التي تبتلع كميات لا بأس بها من حبوب البؤس، فقصص الفقد متكدسة ومتزاحمة لا تتسع لها الأدراج وتنفذ عليها أحبار الأقلام وتجف لأجلها الدموع الحارقة حتى تبأس، وإنها لمدينة ضيقة لعلو جدران حصارها وإحكام إغلاق أبوابها بمفاتيح صدأت مع مرور اثني عشر عاما على سنوات الحصار العجاف.
لم تكن هذه المرة قصة البوابة السوداء -معبر رفح- في الواجهة، بقدر ما تتحمله من مسؤولية كبيرة على ضياع مئات الأرواح لأجل إغلاقها في أحلك الظروف، دون مراعاة لوجه عروبة يربط مصر بأرض فلسطين. على كل حال.. هل جربتم السفر على متن مركب بحري صغير، المركب بوصفه صغير أي لا يتجاوز عدد راكبيه الخمسين مسافراً!، إلا أنّ المسؤولين عن تسيّير أمور المركب شرّعوا لأنفسهم إمكانية تجاوز القوانين بشتى أشكالها رغم دفع كل فرد التحق بتلك الرحلة مبلغاً لا يقلُ عن ألفي دولار أمريكي، بعد نجاتهم من حرب طاحنة كانت الثالثة على التوالي شُنت على قطاع غزة صيف 2014.
لصوص الأموال وقاتلي الأطفال قلبوا المركب بمن فيه في أعمق بقاع المحيط، فما كان من المسافرين إلا أن حاولوا التشبث ببقايا الأغراض المتناثرة من على متن المركب |
المسافرون المئة خرجوا بطريقة مهرّبة من أراضي قطاع غزة وذلك من خلال نفق أسفل الحدود الفلسطينية المصرية التي يعتليها معبر رفح المغلق، ليكتب للرحلة أن تبدأ استعدادات انطلاقها من المياه الإقليمية المصرية. انطلقت الرحلة على متن سفينة كان من المفترض أن تحمل أقل من نصف مئة من المسافرين إلا أنّها أقلّت ما يزيد عن مئتي مسافر كان يحمل بعضهم الجنسية المصرية وآخرين كان لهم نصيب من الجنسية السورية، والبقية تعود جنسيتهم لفلسطين ومن قطاع غزة على وجه الخصوص.
في منتصف الرحلة قام القراصنة بتبديل المركب بآخر أصغر منه حجماً وأكثر منه هلاكاً، تم بموجبه نقل الراكبين جبراً عن أنفسهم لإكمال الطريق دون أيّ اعتراض، لتتسارع دقات قلوبهم وقلوب أطفالهم المتجاوزة حد أقفاص صدورهم العارية من ألبسة الإبحار والسلامة من حوادث الغرق. قطع المركب الهالك منتصف الطريق إلى أن وصل إلى بقعة مياه مجهولة العمق، ولا تقع تحت طائلة سيادة دولية محددة، اعتقد المسافرون على متنها أنها مجرد استراحة وستكمل الرحلة طريقها بعد ساعة أو ساعتين على أكثر الاحتمالات. إلى حد تلك البقعة العميقة توقفت الرحلة وأشار القراصين إلى غموض الطريق الآت، حتى وصلت مراكب أخرى كبيرة فارغة من أيّ من المسافرين الجدد، لتقلّ على فور وصولها مسؤولي الرحلة البحرية المخيفة.
لصوص الأموال وقاتلي الأطفال قلبوا المركب بمن فيه في أعمق بقاع المحيط، فما كان من المسافرين إلا أن حاولوا التشبث ببقايا الأغراض المتناثرة من على متن المركب، حاولوا أداء تمارين السباحة فوق عبوات المياه الفارغة إلا من الهواء، والتمسك بكل ما هو ثقيل ليحمل أجسادهم المتعبة والتي تفقد السيطرة شيئاً فشيئا إلى أن تصل إلى مرحلة اللاوعي واللاواقع.
نفاذ كميات الطعام المحدودة ونفاذ كميات بسيطة من التمر لم يعينهم على دوام العوم حول المركب الذي يزداد غرقاً كلما تعلق به الغارقون، حتى بدأ الدوار ينخر في عقول وأمعاء الغرقى، والذي لا يتغلب على معركته وصراعه مع الدوار يسقط في ظلمات البحر السبعة، ويبدأ بابتلاع الماء، حتى تخر قوته فيسقط في القيعان.
رحلة موت جماعية، واحدا تلو الآخر يحين دوره في السقوط، الكل يشهد على موت الكل، وكل غارق هالك يقاوم الموت للنجاة بحبيب له، ويحاول تخليص جهاز تنفسه من ابتلاع المزيد من الماء الذي يأتي بسكرات الموت على مرئى من عيون الغرقى، لا مفر إذن كلهم سقطوا ضحايا دون وصايا ودون وداع ودون جثامين ودون أكفان ودون قبور، حتى دون معلومات تؤكد بأنهم قد فارقوا الحياة!
فُقد الاتصال ولا يزال مفقودًا عند تلك البقعة، قبل لحظات كانت خطوط الاتصال نشطة ومتصلة بين المسافرين وذويهم، كل الأمور كانت على ما يرام، حتى قلبت الموازين وبدأت علامات الاستفهام تعلن عن نفسها، بمصير من خرج ناجيا من حرب طاحنة استمرت لاثنين وخمسين يوماً، كانت الحاجات والرغبات في خوض رحلة مهربة كهذه مختلفة، تباينت ما بين إكمال لدراساتٍ عليا، وتلقي علاج في الخارج، والبحث عن فرص عمل بدلاً من الانتظار في صفوف البطالة.
أكثر من أربع سنوات مضت ولا زالت الأمهات ترقب عودة أبنائها على النوافذ وأمام الشواطئ وفي قنوات الأخبار، وفي المشاهد المتنقلة بين دول العالم، علها تعثر على وجه ابنها أو حفيدها أو حتى أحداً من مرافقي الطريق. لا زال الحداد قائماً دون فتح لبيوت العزاء، فلم تؤمن أي من قلوب الفاقدين بالأخبار التي تشير إلى أبدية الفراق إلا بتوديع أحبابهم جثامين بقبلة فوق الجبين، ودفن أخير تحت الثرى.
شقيقة أحد المفقودين الذي يدعى "ساجد حماد"، يوميا ومنذ أربع سنوات تتمتم بكلماتها التي لم تتغير ملامح حزنها "لو تعرف يا قلبي كيف أني أرى وجهك في صورة كل شهيد يفدي القدس بدمه، وأني في ذات اللحظة ما زلت أبحث عن وجهك في وجوه المارّة علّك تطل علي بابتسامتك الساحرة وأني أحيانا يملأ أنفاسي عطرك الهادي فالتفت أبحث عنك علّك تكون قد مررت من هنا، وإني أسمع صوتك تنادي باسمي: "نـــور" بلحنك الخاص، اسمعه فأقفز من نومي حتى أمسك بك قبل أن ترحل من جديد …فلماذا لا أجدك يا ساجد؟؟
بعد أن صبغت تلك البقعة العميقة بلون الحب، حمل البحر وقتها الجثث والحقائب والأحلام والأسرار وكفّنها بلا كفن ليدفنها في أعماقه أخيراً، فلم يأتِ أحد لتكريمها ودفنها كما يجب، وترك للاختناق فرصة الاستحواذ على قلوب الفاقدين يتلون آيات اللقاء جهاراً نهاراً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.