شعار قسم مدونات

التغيير الاستراتيجي المرتقب

blogs الثورة المصرية

من يغيرون الواقع هم من يقرأون المشهد قراءة دقيقة، ويستشرفون المستقبل وفقا للسنن الكونية وحقائق التاريخ، ويزرعون الأمل حين يزرع غيرهم اليأس، ويعملون حين يقعد الآخرون، ويواجهون حين يعتبر غيرهم الاستسلام حكمة. وإن المتأمل للتطورات التي مر بها العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة، سيدرك أنه في مطلع كل عقد تقريبا تقع أحداث استراتيجية تغير من معادلات القوى، وهو ما أدى إلى انتقال الصراع من أطراف العالم الإسلامي إلى قلبه. ومن كونه يدور حول مجرد وجود الإسلاميين في المشهد إلى تهديده لبقاء الأنظمة الاستبدادية.

 

مطلع الثمانينات:

ففي العام 1979 قام الاتحاد السوفيتي بغزو أفغانستان، ليغرق في مستنقع استنزفه بشدة لمدة عشر سنوات، مما أثر على تماسك الإمبراطورية السوفيتية، بالتوازي مع تحول الساحة الأفغانية لساحة صراع (إسلامي شيوعي) بدعم غربي، وواكب ذلك مقتل الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 مما أدى لنمو التيارات الجهادية المصرية، وسافر بعض قادتها هربا من الملاحقات إلى أفغانستان، ليحدث تمازج بينهم وبين آخرين أسفر عن تداعيات مستقبلية استراتيجية شديدة الخطورة.

 

مطلع التسعينات:
أدى الغزو الأميركي إلى تعرض أميركا للاستنزاف العسكري والاقتصادي، وتآكلت هيبتها، وفقدت بريقها الأخلاقي، كما سقط النظام العراقي الذي مثل سدا أمام تمدد إيران

بحلول عام 1990 حدث تغير استراتيجي جوهري بسقوط حائط برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتربع أميركا على رأس الدول الكبرى دون منازع ليتم تدشين النظام العالمي الجديد أحادي القطب، وبالتوازي مع ذلك قام الرئيس العراقي السابق صدام حسين باجتياح الكويت، مما أدى إلى تشكيل تحالف دولي بقيادة أميركا، نجح في استعادة الكويت، وحصار العراق، مع بقاء القوات الأمريكية لأول مرة في قواعد عسكرية دائمة بالخليج العربي.

 

وقد أدى تحطم الجيش العراقي مع سابقة عقد مصر لاتفاقية كامب ديفيد، إلى ميل كفة ميزان القوة الإقليمية بشدة لصالح إسرائيل، وبالتالي تم لاحقا تدشين اتفاقيات مدريد وأوسلو التي تضمنت الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. ليمثل عقد التسعينات بجلاء عقد الهيمنة الأميركية والتراجع والتفكك العربي.

 

مطلع الألفية الثانية:

أدى القمع الإسرائيلي، وفشل اتفاقات السلام في استعادة أيا من الحقوق التاريخية بفلسطين، بالتوازي مع تدنيس شارون للمسجد الأقصى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، لتعود فلسطين إلى قلب الصراع بالمنطقة مجددا، ثم سرعان ما وقعت هجمات سبتمبر 2001، والتي هي نتاج تطورات العقود السابقة من انتعاش للتيارات الجهادية بأفغانستان، وتفرد أميركا بقيادة العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج عام 1990، ودعم أميركا المطلق للسياسات الإسرائيلية.

 

وتلى تلك الهجمات قيام الرئيس جورج بوش بتنفيذ أجندة المحافظين الجدد، فغزا العراق عام 2003 تحت ذريعة الحرب الاستباقية، وحيازة العراق لأسلحة دمار شامل لم يعثر عليها حتى اليوم، ومكافحة الإرهاب رغم أن العراق لم تكن له علاقة بأحداث سبتمبر من قريب أو بعيد. وأدى الغزو الأميركي إلى نتائج خارج الحسبان، إذ تعرضت أميركا للاستنزاف العسكري والاقتصادي، وتآكلت هيبتها، وفقدت بريقها الأخلاقي، كما سقط النظام العراقي الذي مثل سدا أمام تمدد إيران التي استغلت الفرصة لبسط نفوذها الإقليمي بالمنطقة.

 

سقط القناع الديني عن السياسة السعودية التي دعمت بشكل فج الانقلاب العسكري بمصر ومارست انتهاكات واسعة باليمن
سقط القناع الديني عن السياسة السعودية التي دعمت بشكل فج الانقلاب العسكري بمصر ومارست انتهاكات واسعة باليمن
 
العقد الأخير (2010):

أسفر قمع أغلب الأنظمة العربية لشعوبها عن اندلاع مفاجئ لثورات الربيع بدءا من تونس 2010 مرورا بمصر وسوريا واليمن وليبيا عام 2011، لتزول عن مقاعد الحكم شخصيات من الوزن الثقيل ظن البعض أنها لن تزول إلا عقب توريثها الحكم لأولادها كما في حالة مبارك والقذافي وعلي صالح، ثم سرعان ما جاءت موجة الثورات المضادة برعاية إقليمية ودولية لتكشف عن كل ما هو قبيح.

 

فسقط القناع عن الوجه الإيراني وعن حزب الله بدعمهما المطلق لنظام بشار ومجازره ضد الشعب السوري، وسقط القناع الديني عن السياسة السعودية التي دعمت بشكل فج الانقلاب العسكري بمصر ومارست انتهاكات واسعة باليمن، أما الإمارات فكان لها نصيب الأسد في دعم كل الثورات المضادة وصولا للمساهمة في دعم محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة بتركيا، وتزّعم حصار قطر.

 

وحتى في صف الفواعل من غير الدول كالجماعات والتيارات الإسلامية انكشف الكثير مما لم يكن ظاهرا، فانكشفت تيارات الغلو كما في نموذج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وانكشفت تيارات العمالة والتبعية كما في نموذج التيار المدخلي بليبيا، وحزب النور بمصر، كما ظهر للعيان ضعف وجمود وعدم أهلية كثر من قادة الحركات الإسلامية، وكل هذه الأمور رغم ثقلها على النفوس وفداحة ثمنها، إلا أنها مثلت مكتسبات هامة، فقد تميز الصديق من العدو، وتبينت مكامن الخلل ونقاط الضعف.

 

من المؤكد أن ثورات الربيع العربي مثلت تهديدا حقيقيا للأنظمة الاستبدادية ولشبكات المصالح التابعة لها، فواجهها هؤلاء بثورات مضادة أثمرت منظومات حكم أشد قمعا وفشلا، مما يجعل تحلل هذه الأنظمة السلطوية مسألة وقت، فهي تسير ضد حركة التاريخ، وتتفكك وتتهاوى بأفعالها الذاتية فضلا عن أفعال وجهود خصومها.

 

إن الأحداث السابق ذكرها تؤكد أن الحياة تقوم على التداول، وأن الباطل مصيره الزوال، وأن واجبنا الإعداد للتغيير القادم الوشيك، لا اليأس من حدوثه، كي نستثمر الفرص المستقبلية ولا نضيعها مثلما ضاعت أخواتها سابقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.