قبل الحديث عن السياسة الحديثة لأمريكا في الشرق الأوسط، يجدر بنا العودة إلى النظر ومراجعة على الأقل أخر مائة عام في الشرق الأوسط. فكلنا يعلم اتفاقية سايكس بيكو (عام 1916) حيث قام كل من السياسي البريطاني مارك سايكس والسياسي الفرنسي فرانسوا بيكو بتقسيم الدولة العثمانية على أساس حدود جغرافية واتبعوا سياسة فرق تسد، فرسموا الرايات لكل دولة، وأوجدوا حكاما لخدمتهم، ورسموا حدودا جديدة وأعلنوا استقلالا شكليا لكل دولة وتاريخ استقلال مزيف لكل دولة.
وتم تغيير مناهج التعليم لتواكب هذه الأحداث المزيفة. فأصبحت مجتمعاتنا تعاني من اضطهاد الحكام، معاناة للشعوب في كل نواحي الحياة، تعليمية، اقتصادية، اجتماعية، قضاء، صحة، وغيرها. حتى أطلق على دولنا بدول العالم الثالث. كل هذه التراكمات عبر سنوات عديده أدت إلى شرارة الحراك الشعبي وبداية الثورات الشعبية ضد هذه الأنظمة، فأدى ذلك إلى ما يسمى بالربيع العربي.
فلا شك أن حراك الربيع العربي منذ عام 2010 في تونس كان ومازال حراكا شعبيا عفويا ضد أنظمة دكتاتورية، ظالمة، تطبق على شعوبها أحكام ظالمة، فطفح الكيل وبلغ السيل الزبى عند الشعوب، فثارت الشعوب لإسقاط هذه الأنظمة واستبدالها تحت شعار الشعب يريد إسقاط النظام.
عدم استقرار الأوضاع السياسية بمصر، زعزع النفوذ الأمريكي بها بعد ثورة يناير، فكان الأولى لأمريكا تثبيت نفوذها بمصر وإعفاءها من دورها السابق بالتحكم بالاستراتيجية الإقليمية بالمنطقة |
فلقد سقطت أنظمة وسقط وقتل حكام لهذه الأنظمة فشعرت أمريكا أن البساط بدا ينسحب من تحتها في دول الشرق الأوسط، فكانت ردة فعلها بالانقلاب على هذه الثورات ومحاولة تسييسها بما يتفق مع المصلحة الأمريكية في المنطقة وبما يتواتى مع المشروع الأمريكي المراد تطبيقه والمعروف بمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الحديث. ولكن السياسة الأمريكية الحديثة اختلفت نوعا ما عن سياسة سايكس بيكو باعتمادها أسسا للتقسيم غير أسس الحدود الجغرافية، بل فاقت ذلك إلى حدود دموية، وطائفية وعرقية، فأبرزوا الصراع السني والشيعي، والعربي والكردي، وغيرها.
فكان من إحدى الطرق الأمريكية وسياستها الحديثة تجاه مشروع التقسيم وتجاه هذه الثورات الشعبية هو نقل لسان حال القرار الأمريكي من القاهرة أو شرم الشيخ إلى الرياض في السعودية. مع أن كلاهما مازال يخدم المشروع الأمريكي في المنطقة.
فبعد أن كانت القاهرة هي لسان حال أمريكا في القرارات السياسية التي تخص المنطقة الإقليمية عبر سنوات عديدة، وبعد أن كانت تعقد أغلبية المؤتمرات في مدينة شرم الشيخ، وقبلة كل رئيس أمريكي عند نجاحه في الانتخابات، كما فعل أوباما عند نجاحه في الدورة الأولى وزيارته للقاهرة. أما ما نشاهده هذه الآونة من انتقال زيارات القيادات الأمريكية من القاهرة إلى الرياض، فمثلا من أولى زيارات الرئيس الأمريكي كانت إلى الرياض، زيارات متتالية لسياسي أمريكا، كزيارات جاريد كوشنر، تسارع غير مسبوق لنقل الأخبار السياسية وغير السياسية من السعودية، من اتفاقيات وصفقات أمريكية، دور السعودية بأحداث اليمن، سوريا، عداك عن دورها العلني ضد إيران وأمور كثيرة. ويعود ذلك إلى عدة أسباب:
أولا: عدم استقرار الأوضاع وخاصه السياسية في مصر، حيث تم زعزعة النفوذ الأمريكي في مصر بعد ثورة يناير 2011 وما زالت الأوضاع غير مستقرة في مصر، فكان الأولى لأمريكا هو تثبيت نفوذهم في مصر وإعفاء مصر من دورها السابق في التحكم في الاستراتيجية الإقليمية في المنطقة إلى أن يستقر الوضع فيها.
ثانيا: أصبح الحراك الشعبي وفكرة تغيير الحاكم في البلدان العربية ثقافة حديثة، وهذه الثقافة أوجدت الرعب في قلوب حكام ما بعد الثورات، واكتسب الشعب ثقة جديدة في النفس بغض النظر عن النتائج المؤقتة وهي الثقة بالقدرة على تغيير وقلب النظام، فتبعا لذلك مازال صدى الثورة المصرية في نفوس الشعب المصري، وما زال الإخوان المسلمين في مصر غير راضيين على سرقة الثورة، مما خلق ذلك جوا ووضعا غير مستقر في مصر.
ثالثا: عوامل اقتصادية، حيث تمر أمريكا بأزمات اقتصادية كثيرة، لا يستطيع دعمها إلا السعودية. وعداك عن طبيعة وشخصية الرئيس الأمريكي الحالي الاقتصادية.
رابعا: مشروع أمريكا الجديد بتقسيم المقسم عبر حدود دموية وطائفية وعرقية، يتطلب وضع السعودية أن تكون هي الواجهة الإعلامية للقرار الأمريكي. ولتوضيح ذلك:
إن المطلع على الوضع الأمريكي داخليا وطبيعة المبدأ الرأسمالي يستنتج كيف يتحكموا في امتصاص طاقات الشعوب وتصريف هذه الطاقات إلى قوة واحدة لخدمة المصلحة الأمريكية، فعلى سبيل المثال ينقسم غالبية الشعب الأمريكي بانتمائهم وتصويتهم إلى حزبين سياسيين، الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، فمن يعارض الحزب الجمهوري يفرغ طاقاته ومشاعره في خدمة الحزب الديمقراطي فينتخب المرشح للحزب الديمقراطي، ومن يعارض الحزب الديمقراطي يفرغ طاقاته لخدمة الحزب الجمهوري. ولكن الخلاصة هو أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يخدمان مصلحة واحده وهم فقط في خدمة الولايات المتحدة الأمريكية.
فتبعا للثقافة الأمريكية في استغلال وتوجيه طاقات شعوبهم داخليا، أرادوا استخدام نفس الألية لخدمة حربهم لتقسيم المقسم، فدعموا وأججوا الصراع الطائفي في بلادنا، فدعموا وأججوا فكرة وجود قطبين على وسائل الإعلام، القطب السني بقيادة السعودية والقطب الشيعي بقيادة إيران، وبذلك:
1- دعموا فكرة الصراع الطائفي بين القطبين، وأبرزوها وكان هناك صراع سني شيعي، فخلقوا أزمات بين الشعوب هدفها هو سياسة فرق تسد وتقسيم المقسم.
2- محاولة امتصاص طاقات الشعوب وتحويلها من المسار الصحيح إلى مسار الصراع الداخلي لتفريق الشعوب.
3- تقارب المصالح السعودية والإسرائيلية بشكل علني، حيث كما ذكرت أصبحت مصالح السعودية تلتقي مع مصالح إسرائيل في عدائها لإيران.
ولذلك نقلت أمريكا القرارات الإعلامية من القاهرة إلى الرياض، حيث أن القاهرة غير كفيلة على القيام بهذا المشروع في هذه المرحلة للأسباب السابقة، والسعودية دولة مهيئة لهذه المهمة في هذه المرحلة لتكون هي القطب المعادي للقطب الأخر لتأجيج هذا الصراع، فكما يختلف الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا ولكن المحصلة أن كليهما يصبان في مصلحة أمريكا، وكذلك الأمر وللأسف أن اختلاف الاتجاهين أو القطبين السني والشيعي يصب هو كذلك في مصلحة أمريكا. ولكن يقول الله تعالى: "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". والله اعلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.