شعار قسم مدونات

وفازت جائزة نوبل بنجيب محفوظ

مدونات - نجيب محفوظ
"كان على الدوام يثير غيظي، وكان في بعض الأحيان يثير رثائي، ولكنّه لم يعد في النهاية يثير شيئًا سوى حسدي"، كان مثير مشاعر التناقض هذا هو نجيب محفوظ، وكان كاتب هذه السطور صديقه الأديب محمد عفيفي. وكان كاتبنا مثيرًا للغيظ -على حد تعبير صديقه- نظرًا لصرامة نمط حياته وإيقاعها المنضبط الرتيب فكان يتبع نظامًا لا يحيد عنه، وكان دقيقًا في أوقاته حتى أُطلق عليه لقب "رجل الساعة"، وطال الأمر أوقات كتابته فكانت لها عدد أشهر ثابت بالعام، وعدد ساعات محدد باليوم يعسر عليه الكتابة خارجها، ولعل هذا ما جعله مدعاة للرثاء أيضًا.
  
ثم أصبح مثار الحسد إذ استمرّ في الإنتاج الأدبي واستمرّ في قصّ الحكايات فلم تعد تُرى مؤلفاته إلا وهي ترتفع وترتفع حتى عانقت النجوم وحظيت بالاهتمام والتبجيل ثم كُللّ جهده بمنحه أعظم جائزة يحصدها أديب، جائزة نوبل. ولأن آفة حارتنا النسيان، سنورد نبذات متفرقات عن عميد الرواية العربيّة وكيف علا بها وسطع نورها على يده حتى انتبه لها جموع البشر باختلاف ألوانهم وأعراقهم.
  
وضع الرواية العربية آنذاك
كانت أقلام النقّاد بمنأى عن نجيب محفوظ في سنوات نشره الأولى، لولا مقالة نقديّة كتبها عنه سيد قطب تلميذ مدرسة العقاد الأدبية أعلن فيها عن ميلاد روائي يملك ناصية الكتابة

كانت الرواية العربيّة آنذاك حديثة العهد بعلوم الأدب، فبدأها محمد حسين هيكل في بدايات القرن العشرين بروايته "زينب" كما هو مشهور -وإن كان هناك بعض المحاولات النسوية قبل ذلك بسنوات- ثم جاء توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدلى العقاد بدلوه بروايته «سارة» وغيرهم من روائي العرب، وبدأ الروائي الشاب حياته الأدبية بنشر ثمانين قصة من غير أجر تلمّس عبرهم خطواته الأولى نحو معشوقته؛ الرواية.

 

التفت إلى الماضي يستقي من قصصه العظات والأحداث ويسردها بأسلوبه البسيط البليغ فكتب ثلاث روايات، ثم -وعلى غير ما نوى من استكمال التاريخ- نفض يده من غباره بعد أن جذبته أحداث حاضره فعدّها ملهمته الأولى ومنبع حكاياته الذي لا ينضب آخذًا في وصف شخوصه وتقلّبهم وما ينطوي عليه كل فرد ممّا يُثير العجب، وهكذا مزج بين ما درسه من فلسفة وما استوقفه من أحداث مرّ بها أو أشخاص تعرّف عليها، فجاءت تجربته صادقة ذات بعد إنساني.

 

التفات "سيد قطب" إليه

كانت أقلام النقّاد بمنأى عنه في سنوات نشره الأولى، وكان من الممكن أن تظل هكذا مستترة في الظلام مغمورة لولا مقالة نقديّة كتبها عنه سيد قطب تلميذ مدرسة العقاد الأدبية أعلن فيها عن ميلاد روائي يملك ناصية الكتابة. أشاد قطب بالبناء السرديّ لرواية "كفاح طيبة" وطابعها القومي من جهة والتنسيق الفني والطابع الإنساني من جهة أخرى مختتمًا مقالته بقوله: "لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة". فلمّا تحوّل نجيب عن الرواية التاريخية إلى الواقعيّة كتب قطب مشيدًا بها: "على النقد اليقظ أن يكشف أن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة".

 

جائزة نوبل تتحسس طريقها إليه
 

undefined

 

كان أوّل من تنبأ له بجائزة نوبل هو عميد الأدب العربي د. طه حسين وأشاد له برواية "بين القصرين" مدللا بها على أحقيته بالجائزة وعلى قدرته الأدبية، وبعد نبوءته بثلاثين عامًا ترددت الشائعات عن ترشيح نجيب للجائزة. كان هذا عام 1982، لكن نجيب نفى الأمر وأكّد أنه لا أساس له من الصحة ولم يتصل به أحد في هذا الشأن.

 

وظل يوسف إدريس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ على قوائم الترشيح أو قريبين منها، لكن تأخر حصول أي منهم على الجائزة لضعف حركات الترجمة من العربيّة، فلم يُترجم من أعمالهم إلا النزر اليسير. وقدّم المستشرق «شيفتيل» خطابًا إلى الأكاديمية السويدية عام 1988 يرشّح فيه أديبًا مصريًّا للجائزة مزكّيًا إياه بشدة ومشيدًا بأعماله، ومشواره الأدبي الذي امتد لنصف قرن من الزمان.

 

رُغم ما كتبه محفوظ من آلاف الصفحات، ورُغم ما فاز به من عظيم الجوائز، إلا أنه لم يُسطّر شيئًا عن ذاته بصورة مباشرة ولم يكتب سيرته

وفي يوم من أيام شهر أكتوبر عام 1988، تلقّى سفير السويد بالقاهرة خبرًا من السكرتير الدائم للجنة نوبل في ستوكهولم عن فوز نجيب بجائزة نوبل في الأدب هذا العام. أُنبئت زوجته عطية الله بالخبر عبر الهاتف، وذهبت لتوقظه من قيلولته وتتلو عليه ذاهلة خبرًا هو أقرب للخيال منه إلى الحقيقة، ولكونه كذلك ظن الأمر دعابة منها لإيقاظه. وبرح الخفاء، وانتشر الخبر في أرجاء مصر كالنار في الهشيم، فتصدّر الخبر جميع عناوين الصحف، وكان من الأخبار الجديدة التي لم تألفها عيون القرّاء من المصريين والعرب.

 

قدم مصر بعدها رئيسُ لجنة نوبل «ستوري آلين»؛ ليبلغ محفوظ الخبر ويدعوه للسفر إلى السويد لتسلّم الجائزة، لكن حالته الصحيّة حالت بينه وبين السفر لتسلّمها، بالإضافة إلى ضيقه بالسفر عمومًا، فتسلّمتا ابنتاه الجائزة نيابة عنه، وألقى محمد سلماوى الخطاب باللغة العربيّة قبل إلقائه بالإنجليزيّة كما أوصاه نجيب قائلًا: "آن الأوان أن يسمع جرس اللغة العربية بين جدران الأكاديمية السويدية العريقة"، فسُمِع.

 

ورُغم ما كتبه من آلاف الصفحات، ورُغم ما فاز به من عظيم الجوائز، إلا أنه لم يُسطّر شيئًا عن ذاته بصورة مباشرة ولم يكتب سيرته متعللّاً بأن حياته عاديّة لا تحوى شيئًا ذا بال، مشيرًا إلى أن تناول الفرد نفسه في نصوص مقروءة هو "مغامرة مجنونة". ورحل عن عالمنا بعد أن أمد الله في عمره وقارب على قرن من الزمان، رحمه الله وغفر له ذنبه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.