شعار قسم مدونات

الغموض والتأويل في شاعرية أدونيس

مدونات - أدونيس

الغموض والتأويل عند الشاعر أحمد سعيد المشهور بـ "أدونيس" يعد من صميم تجرته الشعرية الشعورية، كان أدونيس شاعراً تأويلياً بلا جدل ويتخذ في معظم أعماله الشعرية التأويلية أبعاد متعددة تؤدي إلى تعدد المعنى، كما أنه يتكئ على الرمزية كمحطة ينطلق منها نحو النصية الشعرية التي يمكن أن يعمل فيها الناقد قراءته التأويلية. فأدونيس في أعماله الشعرية يبحث عن الأقنعة التي تتخفى خلف رمزيته الصارخة بوصف تلك الأقنعة رمزاً يلتجئ إليها ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات التي تتمثل في القصيدة موضحاً ومتخذاً الرمزية أداة تعبر عن شخصية الشاعر.

 

كما يعد التأويل عند أدونيس يقوم أساسه على الرمزية، فالمفردات الشعرية الغامضة تحتاج منا إلى التأويل والغموض يحتاج إلى تفسير وإيضاح، والغموض عنده مبني على قضايا وتجليات يستخدمها الشاعر للتعبير عن فكرة ما لا يستطيع الإفصاح عنها لسبب من الأسباب لذلك يلجأ إلى الرمزية. من ذلك جاء المنهج التأويلي منهجاً يُعنى بقراءة النصوص الشعرية الغامضة مقدماً لها شرح وتفسير واضح، والمنهج التأويلي يعد من المناهج الشاملة التي توضح ما تعنيه النصوص وما تخفى خلفها من معاني ورمزية.

 

رمزية الفراغ عند أدونيس تحيل إلى ذلك الظلم الذي يجده المجتمع من الحكام والسياسيون في مجتمع مهدد بالجهل والتشريد بسبب الحكام الذين حطموا كل القيم والمبادئ

ينطلق الغموض عند أدونيس بوصفة قضية تخاطب الفراغ الذي يشعر به، وإطرابه الذي يتجلى في كونه شاعر حداثي متمرد على كل القيم والمبادئ، نلاحظ ذلك في قصيدة له في ديوان "أوراق في الريح" تحت عنوان "الفراغ" يخاطب ويصف فيها نفسه وما تعرض له من حزن عميق مما حل بمجتمعه من عجز وفقدان أمل ودعوته للشعب بالنهوض وعدم الاستسلام ودعوته للإصلاح والتغيير. رمزية الفراغ عند أدونيس تشير إلى كل ما هو سلبي فهي تعني عنده الركون والخنوع وعدم الحركة وضياع الوقت فيما ليس فيه فائدة، وكل ذلك ماثل في المجتمع.

 

اعتمد أدونيس على نمط وصفي فهو في هذه القصيدة يصف حال مجتمعه وما أصابه من داء ويصفف له بمهارة الأطباء الدواء الناجع، بدأ أدونيس قصيدته وكأنه يخاطب ذلك المجهول الذي هو ماثل في غربته الوجدانية يحيط به الفراغ من كل اتجاه.

 

حُطامُ الفراغ على جبهتي
يمد المدى ويهيل الترابا
يُغلْغِلُ في خطواتي ظلاماً
ويمتد في ناظري سرابا

  
يشكو أدونيس من ذلك الفراغ الذي حل به، فالفراغ عنده حطام يجثم على جبهته يمنعه من الحركة والتفكير وما لفظة حطام إلا تلك الأشياء والمعاني التي تقابله في حياته اليومية فهذه الأشياء تتجمع لتشكل الفراغ نفسي يحل في عقل أدونيس ويجعله خامل عاجز عن التفكير والتغيير. وهذا الفراغ ليس أمرا وقتيا يرحل في أي لحظة ولكنه فراغ يمتد ويمتد بطول مدى حياة الإنسان حتى بعد الممات ودفنه في التراب "حطام الفراغ على جبهتي يمدَ المدى ويهيل الترابا"، فهو سجين الفراغ العريض الذي يكبله ويمنعه من الحركة والنهوض للتجديد والتغيير لأنه ليس سجن حسي يمكن الخروج منه بعد انقضاء المدة، ولكنه سجن معنوي فكري "يغلغل في خطواتي ظلاما" يقود إلى التيه والظلام "ويمتد في ناظري سرابا" حتى إذا طاوعه وذهب نحوه وجده فراغ وسراب وتيه.

 

ورمزية الفراغ هنا عند أدونيس تحيل إلى ذلك الظلم الذي يجده المجتمع من الحكام والسياسيون هو في مجتمع مهدد بالجهل والتشريد بسبب الحكام الذين حطموا كل القيم والمبادئ والأفكار التي تتجلى في حياة المجتمع، فغاب النجم عن الظهور وأظلمت السماء وتجمدت الأراضي ورحل البعض مهاجراً إلى المجهول حتى أصبحت البيوت كهوفاً لا حياة فيها بل هم حطام للفراغ .

حُطام الفراغ يُغيبُ نجمي، يجمد أرضي
ويترك بعضي كهوفاً لبعضي
ويجعلنا كالفراغ
حطام الفراغ

  

أحمد سعيد المشهور بـ
أحمد سعيد المشهور بـ "أدونيس" (غيتي)

 

هو حطام بفعل فاعل يجعل من المجتمع يعيش في جهالة ولا يهتم بالتعليم بل يزرع قيم الجهل والتخلف في المجتمع حتى لا يتقدم المجتمع ولا يبصر ببصيرة العلم بل يجعل المجتمع حبيس كهوف الجهل ويجعله فارغ بلا قضية. فالرؤية التأويلية للفراغ عند أدونيس لا تخلو من رمزية سياسية يخاطب بها الذات والمجتمع وتدفعه للنهوض ومطالبة الشعب والمجتمع للنهوض وإحداث التغيير مشبهاً حكام بلاده بالشبح الذي يتمطى ودلالة الشبح هنا دلالة دالة على رؤية أدونيس لواقعه السياسي الذي لا يخلو من ظلم واستبداد. هذا الشبح السلطوي الذي يتمدد كالسراب ولفظة السراب لها مدلولها الذي يدل على اللاشيء الذي يقود الى الجدب والعطش والرمال التي تدل على الانقطاع والهلاك في الصحراء والضنك، فذلك الشبح الذي ملأ الأعماق يباسا ويملأها دكنة وظلام محال أن يعقبه ضوء إلا بالنهوض لإحداث التغيير.

وفي أرضنا شبح يتمطى
سراباً ورملا
ويملأ أعماقنا يباساً
ويملؤها دكنة ومحالا

  

إن الفراغ الذي أحدثه الحكام وفق رؤية أدونيس لن يمكث طويلا فهم يرحلون، وسيوقد الصغار الشموع المضيئة ويغنون بالنصر الأكيد تلك الأغاني البريئة التي تنشد الثورة، وكأن أدونيس قد تبنى بقيام الربيع العربي وما صاحبه من ثورات في تونس ومصر وسوريا، هي قراءة يمكن أن توصف بأنها قراءة ورؤية واضحة لمستقبل البلدان العربية التي تنبأ بها الشاعر في هذه القصيدة يتجلى ذلك في تصويره في نهاية القصيدة غناء الأطفال وانشادهم الثورة كما فعل السوريون حديثاً وهم يغنون ويهتفون للثورة على بشار الأسد الذي يمثل الوجه الحقيقي لرمزية الفراغ.

صغار بلادي شموع مضيئة
صغار بلادي يغنوننا
أغانيهم البريئة
يقولون: "في أرضنا ثورة
تُفَجّر من أولِ
حياة الغد المقبلِ
وتفتح أجفاننا على الزمن الأجمل"
يقولون: "في أرضنا يموت الذين ازاغوا
وزاغوا يموت الفراغ"

  

وفي صيحات الثوار وأهازيجهم يموت الفراغ ويتلاشى وتزهر الأيام من جديد وينام الساهرون وتتفتح أجفانهم على الزمن الجديد، وصيرور الأشياء و تحولها هنا عند أدونيس يعني التغيير السياسي الذي يطرأ على المجتمع فيتحول من حالة الفراغ إلى الحركة، ومفردة الحركة هنا تدل على عدم السكون والجمود الذي كان الفراغ مسبباً له، ونهج أدونيس في هذه القصيدة قائم على النهج التصويري الإخباري فهو قد جمع ما بين الوصف والإخبار بالحقائق التي تدفع الشعوب على النهوض والقيام بالثورة المنشودة، ورغم أن أدونيس مضى على تأليفه لهذه القصيدة ستون عاماً إلا أنها تصلح لتكون وصفاً لهذا الزمن، وما يحث فيه من ثورات ربيع عربي فهو تأويل سياسي يصلح لكل زمان ومكان، والرؤية التأويلية تتمثل في التمدد الزمني والمكاني أو ما يعرف" بالزمكاني" لما تمثله من رمزية للنهوض ضد الفراغ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.