شعار قسم مدونات

"من قاع الدست".. أين اختفت ألعابنا الشعبية؟

blogs لعب الأطفال

لن يعرف معنى هذه الجملة، إلا من تحلق وإخوته أو أبناء عمومته وأقاربه في دائرة، في ليالي الشتاء الباردة، وامتدت يد أحدهم تنثر أربعة أوراق بحجم سنتيمترات قليلة، لتتسابق أربع أيادي صغيرة وتأخذ ورقة مجهولة الحظ، ويبدأ اللعبة اعتمادا على حظه. قبل أربعين سنة من اختراع البلاي ستيشن انتشرت هذه اللعبة في منطقة الشرق الأوسط وباتت من الألعاب الشعبية المعروفة، كانت عبارة عن أربع أوراق في أيدي الأطفال يكتب على كل منها أحد هذه الكلمات "حاكم، مفتش، جلاد، لص"، بحيث تمنح كل ورقة لصاحبها سلطة مختلفة، ومن ثم تبدأ بصوت الحاكم، وهو الشخص الأكثر سلطة في اللعبة، فيقول متسائلا من مفتشي؟ 

ويجيب المفتش معرفا عن نفسه، ليطلب منه الحاكم الكشف عن اللص بين اللاعبين المتبقيين، وإن أخطا المفتش، أي توقع أن الجلاد هو اللص، وقع حكم القصاص عليه ونجى اللص. يبدأ حماس اللعبة الطفولية، وحين يعرف اللص، تدخل الواسطة، فالمقرب من الطفل الحاكم يحكم عليه "بعصا واحدة مسحة" أي أن تمرر القطعة الخشبية على يد اللص باللمس فقط، أو العصا الخشبية أو الحزام الجلدي، وفي أحيان كثيرة المسطرة، فهذه الأدوات مهمة جدا لتنفيذ العقاب.

أما "من قاع الدست" فهي عقوبة يقضيها الحاكم على الطفل اللص الذي يود القصاص منه، فيقول مثلا "أربع ضربات من قاع الدست" فيبدأ الطفل بتحسب وجع الضربة مع يده الباردة في فصل الشتاء، ويبدأ بحك يده ببنطاله أو أي شئ حذاه يخفف من ألم الضربة، ويبدأ في محاولة استجداء الحاكم بالعفو أو التخفيف عنه، أو كامل ضعيف أن يلغي جملة "من قاع الدست" المصاحبة للحكم.. ثم تدخل اللعبة في مرحلة أخذ الثأر، والطفل الذي يحصل على ورقة الحاكم يكون محظوظا أكثر إن كان غريمه لصا، ليقوم برد الحكم مضاعفا مع توصيف "من قاع الدست" كضرورة ملحة لأخذ ثأره.

استغنى الأطفال عن الألعاب الشعبية، ليحل محلها العديد من الألعاب الإلكترونية بكثرة مسمياتها، ومواقع التواصل الاجتماعية، فبات الطفل أكثر عزلة وخفت اتقاد الحماس شيئا فشيئا في مشهد آخر مختلف
استغنى الأطفال عن الألعاب الشعبية، ليحل محلها العديد من الألعاب الإلكترونية بكثرة مسمياتها، ومواقع التواصل الاجتماعية، فبات الطفل أكثر عزلة وخفت اتقاد الحماس شيئا فشيئا في مشهد آخر مختلف
 

ومن لوازم اللعبة كثرة الصراخ، والاحتجاجات التي كانت تعد ملمحا للعبة، وفصل طفل من اللعبة أمر حتمي في كل مرة، وإن لزم الأمر تقطيع الأوراق أثناء الشجار، ومن ثم العودة إلى قصها وكتابتها من جديد، وكما جرت العادة فللغش نصيب، تجد طفلا لم يأخذ دور اللص لو مرة، وبالضرورة أن يكون هو نفسه الذي طوى الأوراق فجعل علامة خاصة به على ورقة اللص، وبالتالي لا يختارها، ومن تكرار اللعبة يكشف الطفل ويعاقب بطرده من اللعبة.

العديد من الألعاب الشعبية التي تخطر على البال رغم اندثارها عند استرجع الذكريات العابرة، إلا أن فرحها ما زال عالقا في الذاكرة رغم اتسامها بالبساطة، منها "أوّلك يا اسكندراني"، و "دق الحابي"، و"نط الحبل"، والطمة أو الغماية والسبع حجار و"طاق طاق طاقية، رن رن يا جرس.. حول واركب على الفرس"، وكانت البنات يمارسن لعبة نط الحبل و"الحجلة" أو "اليوكس".

والكورة التي غالبا ما تتم صناعتها من علب الصفيح أو التنك، بحيث يتم ضغطها على بعضها البعض حتى تصبح على هيئة شبه كرة صغيرة، وتشكيل مرمى بالأحجار المتوفرة، وكل ما يلزم لها أرض منبسطة وجو مشمس، حتى يباشر الأطفال لعبهم. وكان للألعاب مواسمها الخاصة، فالجلول أول ما يبدا الشتاء بالتنحي، نجد الأطفال بدأوا يظهرون بالشوارع ويحفرون حفرا صغيرة كهدف يستخدمونه في اللعبة، وتبدأ علب الماء بالامتلاء بالجلول التي اغتنمها الطفل من أصدقائه، وكلما جمع منها أكثر أصبح مضربا للمثل عند أقرانه.

أما حاكم جلاد، حرف اسم حيوان جماد، وغيرها من الألعاب فتمارس في الشتاء وأوقات المساء، حين يصبح اللعب في الحارات محظورا، بعكس الكورة ونط الحبل والزقيطة، والتي تحتاج لمساحة واسعة ومنبسطة، وأحيانا الحاجة لحي بأزقة ضيقة وأماكن يستطيع الطفل اللجوء إليها متخفيا، إن كانت اللعبة "الطميمة".

ولعل ما يؤلم حقا، أن تختفي الحجارة عن زاويتي مرامي الصغار، وتختفي الأصوات تدريجيا، وتغيب أجسادهم من الأزقة، في مشهد للتحول التكنولوجي والاستغناء عن هذه الألعاب الشعبية، ليحل محلها العديد من الألعاب الإلكترونية بكثرة مسمياتها، ومواقع التواصل الاجتماعية، فبات الطفل أكثر عزلة وخفت اتقاد الحماس شيئا فشيئا في مشهد آخر مختلف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.