بعد انتظار لمدة تجاوزت الـ45 دقيقة في طابور كاد يُغلق أنفاس عُبادة وشهد وأنفاسي، استطعنا العبور نحو جنة عدن حسب وصف إحدى ضحايا الطابور المزدحم في ركن مغامرة أليس -الفعالية الأخيرة من فعاليات قرية الحكايات المقامة في قطر-.
مسطح أخضر صغير تجلس داخله فتاة جميلة، تمسك كتابا كبيرا وتقرأ بصوت مرتفع، وحولها مجموعة من الأطفال بمن فيهم أنا وأولادي نستمع إلى ما تقول. كانت تحدثهم باللغة الإنجليزية رغم أنها عربية، وجميع الأطفال حولها عرب، فاستفز ذلك الموقف محامي اللغة العربية الذي يقبع داخلي في كل موقف مشابه، فاستنكرتُ عليها ذلك بعبارات واثقة وعلى مسمع الجميع، وطلبتُ منها التحدث باللغة العربية، فأجابتني بثقة أكبر وعلى مسمع الجميع أنّ هذا هو موعد القصة باللغة الإنجليزية، ولو شئتُ سماعها بالعربية فعليّ أن أقف في طابور اللغة العربية من جديد.
لم يكن وقع الخبر سعيدا على الإطلاق، ولم أدوّن ضمن توقعاتي الأكثر سوادا لنهاية يوم سعيد أن أقف في طابور خانق مع طفلين ملولين لساعة أخرى، وبين خيارين أحلاهما مر قررت البقاء في هذه المجموعة العجمية واختبار قدراتي الدفينة في الفهم والاستيعاب ثم الترجمة.
علمت حجم سيطرة اللغة الإنجليزية وتفضيل الأطفال والأهل لها أكثر من لغتهم الأم، ففي بلد عربي أنت لا يكفيك ويغنيك أن تتحدث بلغتك العربية |
وبدأت الحكاية.. وظهر الأرنب العجول مع ساعته الأثرية، ودخل في ثقب موجود في الحائط وتبعته "أليس" ونحن من خلفها. كانت أليس تنتقل بين الغرف والأبواب وكأنها تقلب في صفحات كتاب، ديكورات مذهلة، عناية بالتفاصيل، لغة واضحة وتمثيل محترف، وعالم من الأحلام الذي لم يسبق أن عشت مثله، أمسكت بيدي زجاجات الدواء، شاهدت الملكة المتعجرفة، وأوراق الشدة المطوية والقطة المبتسمة والدودة برأسها الأسود، ومائدة الطعام وضيوفها غريبي الأطوار.
كانت أليس كلما فتحت بابا من أبواب الحكاية صرخ ذلك الصوت في داخلي "وااااو"، وضرب حظي التعيس قدمي في الأرض غضبا لأننا لم نسمع كل تلك التفاصيل بالعربية. حيث بدت طفلتي شهد كالحمقاء رغم ذكائها، وهي تبحث وحدها عن الأرنب (الكلمة الوحيدة التي فهمتها من ذلك العرض)، بينما كان الجميع يستمعون إلى حكاية أليس وتعليماتها ويصرخون متفاعلين بصوت واحد.
خرجت من ذلك المكان المدهش مستمتعة بامتعاض، ففي داخلي براكين تغلي وحسرة وخيبة لأننا لم نفهم القصة جيدا، ولأنني أدركت حجم سيطرة اللغة الإنجليزية على أطفال في الابتدائية يفضلون سماع القصة بلغة غير لغتهم في بلد هو أصلا لهم. تحطمت بعد ذلك الموقف كثيرٌ من مثلي العليا ومحاولاتي الفاشلة لإنقاذ اللغة العربية من الثغرة التي أقف عليها.
وعلمت حجم سيطرة اللغة الإنجليزية وتفضيل الأطفال والأهل لها أكثر من لغتهم الأم، ففي بلد عربي أنت لا يكفيك ويغنيك أن تتحدث بلغتك العربية، لغة آبائك وأجدادك ونبيك وقرآنك لتفهم ما يدور حولك، سواء كنت في البيت والمتجر عند الطبيب أو في المطعم، بل عليك أن تقنع نفسك والآخرين بأنها لغة مخجلة لا مكان لها في قطار التقدم الحضاري، لذا وجب التملّص منها وتخليص أبنائك ممّا قد يعلق في ذهنهم من شوائبها.
ولكن كيف السبيل؟ دعني أخبرك.. علم ابنك الإنجليزية منذ مسقط رأسه، حدثه، حاوره، مازحه، وبخه بها، دع كلماته الأولى تنطق بإنجليزية عفوية. عرّفه بالمسميات حوله بنفس اللغة التي كنت تغار من إتقان طفل أمريكي في الثالثة لها أكثر منك، قل له أورنج وجرين وسكاي ونوتي وكار وكات وهات وفولو مي وبي كوايت وكم هير، وإياك أن تنطقها بالعربية ففيها شبهة من جهل أو تخلف، أو وصمة عار يصعب طمسها، فجميع الدلائل تثير الشكوك حولكما، شعره الأجعد، بشرته السمراء، اسم أبيك، تكلّفك الواضح لتبدو أبا صبورا ولطيفا.
ولكنك تفعل ما بوسعك لتقطع علاقتك مع واقعٍ عربي أسود يثير الشفقة، ولا بد ستنجح يوما ليصبح صغيرك المدلل عديم الملامح، مشوه الهوية، ضائعا بين جذر قطعته وساق لن تنبت، هو عربي مع وقف التنفيذ، حطّ به حظه السيئ في ثقافة محدّثة تحترم الآخرين أكثر من نفسها، فوجب الخجل منها بكل تأكيد.
ولن أبالغ في النقد كثيرا، فقد لا أصمد طويلا كما انهار قبلي مع تيار استبدال اللغة العربية بأخرى أكثر حيوية وعملية. فقد أضطر كغيري لتعلم أكثر من عشر جملٍ تركية تحتوي أكثر من أربعين كلمة، فيها الاسم والفعل والضمير الحي لشعب يعتزّ بلغته وإرثه لقضاء أسبوعٍ واحدٍ فيها.
وقد أُجبر على تعلم اللغة الإيطالية كالدكتورة سناء لقضاء شهر ونصف في نابولي أكتسب خلاله دورة جديدة في علم الوراثة، وربما تحط بي ظروف العمل والدراسة أمام جبروت العرق الآري لأجد نفسي مضطرة لإتقان الألمانية كما لو ولدت فيها. تلك بلدان وغيرها الكثير ممن تورّثت تاريخها وثقافتها والاعتزاز بنفسها جيلا بعد آخر، وتصدّق المراسيم والقوانين التي تضمن حمايتها ثم انتشارها، تستحق أن يتعلمها وينطق بها كل من أراد أن يتخطى حدودها.
فهو الدخيل ليست هي.. وهم أولى بالتغيير منها.. بل هي فرصة لتهدي ضيفك إرثك الحضاري واللغوي.. ويح قلبي من كرم العربي في يومنا، شحَّت ينابيعه التي يرويها للزائر إلّا من كلمات الشكر والسلام. أصفن لدقائق مع نفسي، أشطح بخيالي الواسع في كل الاتجاهات، ويزنّ إبليسي بسؤاله المشبوه في أذني موسوسا، ماذا لو؟ ماذا لو ربطت دولنا العربية شرط الحصول على إقامة فيها بإتقان اللغة العربية؟ وماذا لو اشترطت كبرى شركات النفط والغاز والتعليم والطرق والبناء، الحصول على شهادة نظيرة لشهادات توفل وآيلتس بإتقان اللغة العربية؟ وماذا لو رفض العربي كما يرفض التركي إجابة أي سائح بغير لغته؟ وما المانع لو اشتُرطت أن تكون الدورات والفعاليات باللغة العربية، أو أن ترسل الرسائل البريدية بين الشركات العاملة على أرضها بالعربية فقط؟
لا أعتقد أن يجد الشُّقر والسُّمر والصفر والحمر صعوبة في تعلم اللغة العربية لأجل الحصول على وظائف محترمة بمرتبات مرتفعة، فلماذا لا نفعل؟ لماذا تبدو بلداننا العربية ملكا لغيرنا، تظهر هيمنتها بوضوح في كل مفاصلها الحيوية؛ في المكتبات، والمستشفيات، والنوادي الرياضية، والألعاب الترفيهية، والمدن الحديثة. وإلى متى نراعي لغة العالم لتسهيل السياحة والاستثمار ودعاوي الحداثة على حساب هويتنا وثقافتنا؟
أسئلة كثيرة تثار حولي في كل مرة أشعر بالانتقاص من نفسي لأنني لا أتقن وأطفالي الإنجليزية نطقا وسماعا كأبنائها في بلد عربي. ورغم كل هذا وحتى ذلك الوقت الذي سيصحو فيه صناع القرار، وإلى تلك الأحلام التي قد لا تتحقق.. سأبقى واقفة عند ثغرتي أذود عن لغتي.. لن يحميها صمودي ولن تنهار بتراجعي، ولكن إن وقفت أنا، وهو وهي، وأنت وهم، وأولئك ونحن، وأنتم والجميع. قد ننجح.. بل لا بد سوف ننجح.. فلنحمها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.