السيد محمد علي شهاب.. ثورة البسمة وفكرة السلام

blogs السيد علي شهاب

السيد محمد علي شهاب، شخصية قلما نجدها في نوايا التاريخ، حياة مع الكفاح والنهضة والتجديد والوقوف على وجه الثوريات الزائفة والنعرات التي تنادي إلى نبذ التراث والتقاليد والسنة، رجل لا يذكره أهالي كيرالا إلا قاموا له تبجيلا وتكريما، تقديرا لخدماته الجزيلة التي بها زرعت كيرالا برعمة متجذرة في خريطة الهند ذات التنوع والتعدد، ثقافة وحضارة.

 

إنه الرجل الذي غير مسار الأمة وجدد مصير الأقليات وحررهم من غطرسة السياسة ولعبتها، وولد فيهم قوة الوحدة، سيادة كانت لها رؤى متشعبة وأبعاد ذات فحويات عميقة، بعثت الأمل والرجاء وأحيت الطموحات الموؤودة رغم أزمات تكالبت على سياسة الأقليات في جمهورية الهند، حياة يحتضنها العطاء والبذل، والكرم والوفاء، إنه السيد محمد علي شهاب، ذكريات هابة بين المآثر الخالدة التي لها دوي وراء الزمان، وبعد رحيله من صفحة الدنيا يذكره الجيل بعد الجيل بكل حفاوة بالغة.

العصر الذي عاش فيه السيد

توفي السيد محمد علي شهاب في الثاني من أغسطس سنة 2009 م ، بعد تقديم حياة حافلة بالخدمات الدينية والسياسية، وانطفأ النبراس الذي ظل يكتسح الظلمات كما وصفته جريدة "تيمس آو إنديا" بأنه كان آخر سفير للسلام

"

لقد عاش عصرا مضطربا بالصراعات السياسية العاتية، تنبت من الخلاء الفارغ الذي شكله الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الكبرى الثانية في منتصف القرن العشرين، وما أعقبها من الخصومات والمشاجرات في حدود الهند وباكستان وبنغلاديش، دائما كان المسلمون في كفة الضحايا والفرائس، مجازر وموسم من الهجرات واللاجئين، هكذا رسم التاريخ ذلك العصر المشتعل، وتأرجح مستقبل المسلمين في ميزان الحكومة والمستغلين من الفراغ، فيهم من يندد بقاءهم في الهند، ومن يناديهم للاستقرار في مسقط الرأس وموطن الآباء.

 

وكان السيد آنذاك يمارس دراسته في جامعة الأزهر ثم القاهرة، بعيدا عن الضجات المصطخبة في شبه القارة الهندية، إلا أنه كان على علم عن الكوارث التي تتعرض لها الهند والمسلمون، وكان والده السيد أحمد فوكويا زعيما سياسيا يتشرف بقيادة رابطة المسلمين في عموم الهند، وبعد ثمان سنوات من الدراسة الأزهرية غادر إلى بلده سنة 1966م حاملا عبء الأمة، ومصمما لحل العقدة. وقد نشأ في قالب أزهري يتحلى بالوسطية والتصلب في الأصول والأسس، هنا يصنع التاريخ رجلا عبقريا في عمقه الوفاء للأمة والكرامة والمجد، عبقري صنع أمة ترنو إليها الأمم.

فأصبح شخصية قيادية في سياسة كيرالا والهند، مع أنه سيد يحتضن الضمير العربي المنسل من وادي حضرموت وتريم، يجري في عروقه الدم الشريف من قبيلة شهاب، وكانت لها صدى واسعا في مجال السياسة والدين والثقافة، وقدم حياة جليلة لحد أن انجذبت إليه شخصيات تنتمي إلى شتى الأحزاب والفئات، من الشيوعية والاشتراكية، والعلمانية والسلفية، لأنه بطل شكل نمطا جديدا في مسار الأمة المسلمة ودربها على مواقف حاسمة صارمة إبان الأزمات الثائرة في الهند، ونفذ نقطة فيصلية في سياسة جمهوريتها لخمسة عقود بناءة في رئاسة رابطة المسلمين، على حين كانت العرب والأمة تصارع الحياة وتمر بظروف سياسية صعبة نجمت من اليأس وفقدان الرئاسة والتشرذم، خلال هذه الأوضاع الحرجة؛ تمثل السيد بحياة متشعبة مفتولة بشعل الأمة والتعايش والتضامن.

في غمار سياسة الأمة

لقد فاجأته دعامة سياسة مسلمي الهند إثر انتقال والده السيد أحمد فوكويا، وكان آنذاك يمارس اللغة والأدب العربي في جامعة الأزهر، (1956-1966) م، وقد تولى زعامة حزب "رابطة المسلمين في نقاب الهند" في زهرة شبابه مع أنه لم يتجرب ألاعيب السياسة وخدعتها، بل كان الوقت مشؤوما للغاية، لأن كثيرا من أسياد الحزب استقلوا واستعفوا منه طمعا وجشعا في بريق الذهب الموعود لهم من قبل "الخونة" وخوفا من السجن والاعتقال، وهذا الحزب كان هو الأمل الأول الذي يمثل الأمة الإسلامية والأقليات المهمشة منذ أن استقلت الهند وانشقت منها دولة باكستان.

 

وكانت هذه السياسة والسيادة بإشارة من رؤساء الحزب حيث أجبروه على تقلد هذه الذمة، فتولى المنصب متوكلا على الله رغم قسوة الوقت وجبروته، لأن الهند كانت تعيش أوضاعا مشؤومة بعد أن أعلنت رئيسة الوزراء إندهرا غاندي حالة طارئة حيال الهند، وأصدرت قرارا مهما مروعا يجسد تشريد سياسة الأقليات واقتناص زعماءها واعتقال قادتها واغتيالهم من غير سبب، بل كان هذا الحزب على أحر من الجمر، ويقف وجها لوجه مع حزب المؤتمر الوطني الذي يرأسه "جوهر لال نهرو" العملاق؛ أول رئيس وزراء لجمهورية الهند المستقلة، لكنه تولى القيادة وخاض السياسة في ريعان عمره، وترك فرصة سانحة للتدريس في الأزهر الشريف.

 undefined

والسيد محمد علي شهاب دائما تحلى بالوسطية والاعتزاز بالذات والاعتراف بتنوعية الهند وتعددية حضارتها، وقد ألهبت ذلك الوقت دعايات منشورة من قبل أبي الأعلى المودودي وموقفه من إقامة الدين في الهند، ورفض الديمقراطية وتكفير المصوتين لصالح الحكومة بدعوى أنها حكومة الطاغوت والكفر؛ مثيل ما دعا إليه حسن البنا والإخوان في مصر، وأزعجته نداءات أبي الكلام آزاد أول وزير لشؤون التربية والتعليم في الهند لانضمام المسلمين في الجبهات العلمانية السائدة بديل تجمعهم تحت مظلة حزب خاص بهم، لكن السيد توجه نحو هذه التيارات المنجرفة بشدة العزة وقوة الإرادة وإستراتيجية استثنائية تعارضهم أصلا، همة يبنيها الكفاح والوعي بالذات، فأنتجت هذه الفكرة العميقة الراسخة في التعايش والتراث والتقليد سياسة نادرة تنقذ الأقليات من التشرذم والضياع.

 

كما هي واضحة حق الوضوح تجلت في قضية مقاطعة "مالابرم" التي تضم أكبر عدد من المسلمين، مركز المتمردين على الاستعمار البريطاني في لواء الخلافة أوائل القرن العشرين، ولأجله لم يتم تشكيل المقاطعة بشكل سهل بل نجمت عنها آثار بعيدة المدى، وكان للمقاطعة الحديثة العهد التغلب على خيوط المؤامرة والمخططات المدبرة لتجميد القرار وإحباط القضية من الأصل، لكن السيد محمد علي شهاب تعامل مع كل القضايا بقريحة أثنى عليها الأغيار واحترموها، وقد ساندته تجربته الواسعة وأيامه الطويلة في الأزهر ورؤيته أحداثا مهمة سياسية شائكة في مصر وفي الصعيد العربي، وفي نفس اللحظة كان منخرطا في النشاطات الدينية التي قادتها جمعية العلماء لعموم كيرالا، أكبر جمعية إسلامية في ديار مليبار، في كنفها عشرة آلاف من المدارس والكليات الإسلامية ومائة ألف طالب وطالبة داخل الولاية وخارجها، وكان قاضي المحلات ومدير اللجنات الإسلامية والكليات العربية.

خلد السيد محمد علي شهاب حياته ودعوته، وبدا تاريخه وفلسفته، فكان مربي شعب ومدير مجتمع، رجل سار مع ضمير الأمة تجديدا وتوعية، ولم يتراجع عن موقفه وصلته بالتراث

ورغم تصلبه في المواقف من التراث والسنة، فتح حوارا هادئا مع التحركات السلفية والأحزاب المختلفة نهجا ولهجا إلى أن قاد جبهة ديمقراطية تضم أكبر الأحزاب السياسية الهندية من أمثال "مؤتمر الهند الوطني"، ولم تحجبه هذه الهالة التقليدية من رئاسة حزب يوحد صوت الأمة جمعاء، وتعد هذه الأيام من أشرفها وأفخرها التي عاشها مسلمو كيرالا بغض النظر عن اختلاف منهجيتهم وفئاتهم، والسبب المحوري في تجمع الشعبية حوله، هو قلبه المفتوح المتحرر من عقدة مضايق الفكرة التي تعرض لها معظم زعماء ذلك العصر، فحصد موقفه هذا شعبية واسعة في خلايا السنة والسلفية معا.

رحيله

توفي السيد محمد علي شهاب في الثاني من أغسطس سنة 2009 م، بعد تقديم حياة حافلة بالخدمات الدينية والسياسية، وانطفأ النبراس الذي ظل يكتسح الظلمات كما وصفته جريدة " تيمس آو إنديا" بأنه كان آخر سفير للسلام".

وكان مصابا بألم شديد في جسده، يعاني من تضخم الضغط في دماغه حتى وصاه الأطباء الحذقة لعلاجه في الولايات المتحدة، لأن أطباء كيرالا لم تكن لديهم الطاقة الكافية بالنسبة لعلاج سيد مثله، فتم نقله إلى الولاية المتحدة برعاية الحكومة الهندية، فبرأ بحمد الله وتوفيقه من المرض، ولكن فاجأته وفاة زوجته الحبيبة وهو في سرير المستشفى، فأخفى الجميع خبره تحت أمر من الأطباء، ورجع إلى بلدته ولم يعلم بخبر موتها حتى أعلمه أخوه السيد عمر علي شهاب فلم يظهر أي حزن في وجهه بل تلقاه بقلب عزيم.

 

ورغم ذلك كانت الفترة، فترة الانتخابات الجارية إلى البرلمان، وقد تورط حزبه في سيل من الهجمات المتسلسلة من قبل المعارضة، فلم يستطع التغلب على تلك الحملات الائتلافية، فأنتجت خسارة كبيرة في تاريخ رابطة المسلمين وفقدت مناطقها التقليدية، فظل السيد يعالج القضية بحماسة نادرة ويواجه القنوات والجرائد بهمة لا مثيل لها، وحقق قوله "الأزمة تولد العزيمة".

هكذا خلد السيد محمد علي شهاب حياته ودعوته، وبدا تاريخه وفلسفته، فكان مربي شعب ومدير مجتمع، رجل سار مع ضمير الأمة تجديدا وتوعية، ولم يتراجع  عن موقفه وصلته بالتراث، ورفع لواء التجديد والنهضة بالعودة إلى صفوة السلف وأصالة التاريخ، وأعتقد أنه لو اقتص من جذور التراث لتطاول الأعداء وتسارعوا إلى فبركة التاريخ وتزوير الأيام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان