شعار قسم مدونات

"حج وبيع سبح".. هل تفوقت التجارة على النسك؟

blogs الحج

إحدى مكرمات الهاشميين؛ أداء الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر لفريضة الحج ومناسك العمرة لأول مرة بعد النكبة، ولأول مرة في العام ١٩٧٨م، ربما لم تصدق الحاجة أم محمد أنها ستؤدي فريضة الحج ذاك العام إلا عندما شاهدت الحافلات الأردنية تجتاز جسر الملك حسين باتجاه الضفة الغربية لنهر الأردن لتقلها وتعود بهاإلى الضفة الشرقية، ومن ثم إلى الديار المقدسة مكة المكرمة والمدينة المنورة، فقد حدث هذا بعد طول انتظار امتد من العام ١٩٤٨ الى العام ١٩٧٨م، حيث  حرم الفلسطينيون داخل الخط الأخضر من أداء مناسك الحج والعمرة لمدة ثلاثين عاما، نظرا للظروف السياسية المعقدة التي تلت الحروب العربية الإسرائيلية  عام ٤٨ و٦٧ و٧٣.

 

إن ما جرى أن وفدا قوامه ٣١ فلسطينيا أتوا لزيارة المغفور له الملك الحسين في العام ١٩٧1م لتقديم واجب العزاء في حادث وفاة الملكة علياء الحسين، وأثناء الزيارة رفع الوفد لجلالته رغبة الفلسطينيين داخل الخط الاخضر بأداء فريضة الحج، وأنهم محرومون من زيارة الأماكن المقدسة منذ العام ١٩٤٨.

 

بدوره لم يتردد الملك الحسين يومئذ من تذليل كافة الصعوبات التي تحول دون قيام جزء من المسلمين بأداء واجباتهم الدينية والروحية، مدفوعا بقيم عليا تتمثل في شعوره بحق هؤلاء القيام بأداء مناسكهم رغم ظروف الاحتلال، لقد كانت بداية هذه المكرمة أن حج هذا الوفد ضيوفا على الديوان الملكي الهاشمي وبدأت الترتيبات لأداء الحج لكل الراغبين في العام التالي.

 

تضارب المصالح يمكن تعريفها بأنها كل تصرف أو موقف يحقق مصلحة مادية أو معنوية لهيئة ما – أو من يمثلها رسميا – بأي شكل من الأشكال، ويكون متعارضا مع أداء واجباتها الرسمية

لقد كانت الصعوبات بالغة في تلك الفترة من الزمن؛ حيث كانت جامعة الدول العربية تحظر على حاملي الجنسية الإسرائيلية الدخول لدول الجامعة، مما دفع السلطات الأردنية بتوجيهات من الملك الحسين للتنسيق مع السلطات السعودية؛ باعتبار الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر مواطنين أردنيين من لحظة وصولهم للأراضي الأردنية وحتى انتهائهم من مناسكهم وعودتهم لديارهم.

 

وبالفعل، ففي النصف الثاني من شهرأكتوبر/تشرين الأول من العام ١٩٧٨ اجتازت قرابة الثلاثين حافلة أردنية (مكيفة، يصعب توفرها في تلك الفترة) جسر الملك حسين باتجاه الضفة الغربية، وأقلت ما يقرب من ألف وخمسمائة حاج، وعادت بهم إلى الأردن، ومن ثم انطلقت بهم إلى الديار المقدسة؛ وقد عمت الفرحة قلوب الحجيج، وامتدت الفرحة لتشمل كافة القرى والبلدات الواقعة داخل الخط الأخضر.

 

لقد أشرف الديوان الملكي العامر على هذه المكرمة الهاشمية (دون أي مقابل) خلال السنوات القليلة التالية؛ حتى يضمن جودة الخدمات دون أي تقصير، وعندما انتظم الأمر، أحال الديوان الملكي الأمر للجهة ذات الاختصاص؛ وهي وزارة الأوقاف الأردنية، وبدورها قامت الوزارة بواجبها تجاه هؤلاء الحجيج بصفتهم مواطنين أردنيين، وأحالت خدماتهم على القطاع الخاص الأردني أسوة بإخوانهم من الحجاج الأردنيين، وبقيت تمارس دور الرقيب دون أن يكون لها أي دور مباشر في تقديم الخدمات؛ فمن المستحيل أن تكون ممارسا لدور الرقيب ويكون لك دور في تقديم هذه الخدمات. واستمرت في تقديم الخدمات من خلال طرح عطاءات لتنفيذها؛ وهو ما يعرف في الأردن (عطاءات مسلمي عرب 48) لأداء مناسك الحج أو العمرة، حيث تتقدم الشركات الأردنية بمناقصات للفوز بهذه العطاءات ويشرف على إحالتها على الشركات الأردنية مديرية الحج والعمرة في وزارة الأوقاف، وللأمانة ومن باب الشفافية الكاملة في هذه المناقصات؛ يشارك مديرية الحج والعمرة لجنة من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر في الإشراف عليها.

 

هذا السرد التاريخي والمواقف والأحداث القريبة تقود إلى الحديث عن سياسة تضارب المصالح؛ والتي يمكن تعريفها بأنها: كل تصرف أو موقف يحقق مصلحة مادية أو معنوية لهيئة ما -أو من يمثلها رسميا- بأي شكل من الأشكال، ويكون متعارضا مع أداء واجباتها الرسمية. وهو ما تقع فيه وزارة الأوقاف الأردنية اليوم من خلال نزولها من مكانة الرقيب إلى مكانة المنافس؛ وهي مكانة لا تليق بمقام وزارة الأوقاف الأردنية، خاصة في موضوع الحج، حيث قامت الوزارة مؤخرا بإنشاء شركة أسمتها (الشركة الوطنية للسياحة والسفر والحج والعمرة) تنافس فيها قطاع السياحة في الأردن على تقديم الخدمات للحجاج، وهو أمر يوقعها في سياسة تضارب المصالح؛ لا لأنها تمارس دور الرقيب فحسب، بل لأن البيع والشراء هنا مرتبط بما يؤمن ويشعر به الناس، فهو موضوع مختلف تماما عن تنمية أملاك الوقف أو استثمار أموال الأيتام وتنميتها.

 

يتداول الناس بمكة المثل (حج وبيع سبح) الذي يشير لمرافقة سوق للحج يكون فيها البيع والشراء مرادفا للنسك، ولكن لأي مستوى يمكن أن تصل هذه السوق الذي يمكن أن تحول الحج نفسه لسوق.
يتداول الناس بمكة المثل (حج وبيع سبح) الذي يشير لمرافقة سوق للحج يكون فيها البيع والشراء مرادفا للنسك، ولكن لأي مستوى يمكن أن تصل هذه السوق الذي يمكن أن تحول الحج نفسه لسوق.
 

ولربما تبادر للأذهان أثناء هذا الحديث الآية الكريمة "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ.." وهي من آيات الحج التي وردت في سورة البقرة. يذكر الشيخ الشعراوي في تفسير قوله تعالى "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ …" دقة التعبير القرآني فضلا ولم يقل رزقا؛ لأنه حتى من يقدم الخدمات في هذا الموسم ينبغي أن يكون التكسب فيه أمرا ثانويا. ومن عظمة هذا الدين أن من يقدم الخدمات يرخص له في المناسك دون غيره من الحجيج. انتهى كلامه رحمه الله. إن التسلط على جيوب الحجيج وتحويل أموالهم إلى ملايين في جيوب الأغنياء، لا شك أنه يحول الحج إلى سوق كعكاظ وذي المجاز ومجنة، ولا يدخل في سياق الآية الكريمة، ولا شك أن تفضيل تقديم الخدمات للحجاج الأغنياء دون الفقراء منهم لا يدخل أيضا في سياق النص القرآني.

 

لقد ذم النص القرآني سلوك قريش في استغلال الحجاج قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: "وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ"، لقد تمثل هذا الاستغلال في الكذب على الحجاج أثناء مواسم الحج وبيعهم ما لا يلزم والتسلط على جيوبهم وأموالهم، من خلال الأسواق التي أنشأتها قريش  في مكة وحولها، وإيهامهم أن الشراء من أسواق مكة يخلصهم من الذنوب والخطايا التي ارتكبوها خارج الحرم، ورغم غياب التشريع السماوي وتحكم الجاهلية، إلا أن هذا الاستغلال انحصر في أسواق مكة، وهو أمر ترفع عنه بنو هاشم وانشغلوا عنه بالسقاية والرفادة (السقاية تقديم الماء للحجيج والرفادة اطعامهم) وبذلوا أموالهم خدمة لضيوف الرحمان؛ وهو أمر كانت تميز قريش له غيظا، حيث كان الحجاج من العرب العائدين إلى ديارهم يطيرون بأخبار هؤلاء وأخبار بني هاشم وشتان بينهما.  

 

يتداول الناس في مكة المثل الحجازي "حج وبيع سبح" الذي يشير إلى مرافقة سوق للحج يكون فيها البيع والشراء مرادفا للنسك، ويقدم فيها ما يلزم الحاج ويعينه على التفرغ للعبادة، وهو أمر ضروري أثناء الحج، ولكن إلى أي مستوى يمكن أن تصل هذه السوق؟ وهل يترك الأمر فيها إلى الحد الذي يمكن أن يتحول الحج نفسه إلى سوق؟ ولقد امتدت هذه السوق اليوم خارج مكة المكرمة ليصل إلى كل فج عميق يأتي منه الحجيج، وقد اتسعت هذه السوق وأصبحت تشمل شركات الطيران وشركات النقل والفنادق والكثير من شركات السياحة والسفر ومنظمي الرحلات والوسطاء. إن ما يجري اليوم يدفعنا إلى إعادة النظر أكثر من مرة، والتفكير العميق في منظومة القيم التي كانت مرتبطة بسلوكياتنا تجاه الحج؛ والتي بدأت تتصدع وتتداعى أمام فرص المتاجرة وتحقيق المنفعة المادية من هذا النسك العظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.