(1)
أكتب كي تقرأني سنابل القمح، وكي تقرأني الأشجار
أكتب كي أنقذ من أحبها من مدن اللا شعر، واللا حب، والإحباط والكآبة
(نزار قباني)
يبدو لي فى تلك اللحظة التي انتهى فيها إلى ورقة وقلم، كـخيل أنهكه الركض وحان وقت استراحته، لحظات مقتطعة من صخب الحياة وكل مشاغلها، عالم زهري يأخذ فيه "الحرف" دوره كأداة جمالية تنتظم وراء بعضها في جملة صيغت بإبداع و فكرة أتمت معناها فى كلمات، هنا تكون الكتابة لوحة فنية مبهرة لها جلالها في نفس صاحبها، وهكذا يمضى الوقت -الذى مهما طال قصير- فى ضيافة الورقة والقلم كـهدنة محارب ألقى عن ظهره أثقاله وراح برويّة حكيما ينثر كلماته وقد أسقاها من روحه وعقله الكثير .
وعندما انتهي، مع آخر حرف قد اكتملت به الفكرة، وبعيدا عن اللوم الدائم مع كل قراءة جديدة بأن شيئا ما لم يكتب بعد، تكون لحظة من التحليق الصافي، تحليق بمعناه الحرفي لا مجازه، إشراقة مكتملة البهجة تحطّ بجناحيها على يومي فتصير الحياة محتملة، وفي العالم مكان يسعنا طالما لازال بالإمكان أن نكتب. هل تعرف ما هو شعور أم قد أمسكت طفلها للمرة الأولي، أترك لخيالك كيف تكون السعادة.
ثم تكون إعادة القراءة، مرة بعد أخرى، وفي كل مرة ثمة ما يضاف أو يختصر، أشبه هنا أم عروس تزينها لزفافها فلاتزال تجمّل فيها وهي على قناعة أن هناك جمال لم يكتشف بعد.
(2)
"سئل باولو كويليو -الروائى البرازيلي- من أين تستمد الإلهام في كتابة رواياتك ؟ فأجاب بأن هناك نوعين من الكتّاب، نوع يشبه طبروست وجايمس جويس"؛ لديهم عالم من الخيال حاضر بقوة فى أذهانهم، لذا هم لا يحتاجون إلى عيش التجربة كي يكتبوا؛ وهناك نوع ثان مثل "رامبو وهيمنجواي" يحتاجون عيش التجربة، وهؤلاء أنتمى إليهم، فأنا بحاجة للتجربة لأكتب"
دائما ما كنت أهرب من فكرة "امتهان" الكتابة، بحيث تصبح "وظيفة" لها ساعات عمل ومواضيع كتابة وقواعد تحكمها، كنت ولا أزال أرى الكتابة مساحة آمنة للهروب من كل شىء، ملجأ سري لكل المشاعر والأفكار التى تجول فى خاطرى، لذا وكنتيجة محسومة لابد وأن ترتبط معي بتجربة أو شعور حي أستطيع مراقبته فى قلبي وتذوق طعمه في فمي، ربما فى هذا إجحاف لحق من يلجأ لخياله الذي بالضرورة لا ينقصه الإبداع من أعظم روايات الأدب الانجليزى كانت رواية "مرتفعات ويذرنج" لإميلي برونتي والتي حاكت فيها أدق تعقيدات النفس البشرية والعلاقات الإنسانية؛ وهي لم تتجاوز جدران بيتها الأربع، لكن يظل للتجربة صدقها وقدرتها على بسط ظلالها على كلمات الكاتب واستشعاره بكل معنى يخطّه عبر الحروف.
(3)
"يقول أومبرتو إكو -الفيلسوف والروائى الإيطالي- يتساءل الكثير من الشباب: كيف أكتب؟ أجيبهم دائما: لا يمكنك أن تصبح جنرالا ما لم تكن عرّيفا ثم رقيبا ثم ملازما، لذلك امض خطوة خطوة، فالعبقرية عشرة بالمائة إلهاما وتسعون بالمائة مجهودا"
من أكثر الأسئلة إرباكا؛ سؤال " كيف أكتب"، لا أظن أني سألته أحد يوما، كذلك لم أستطع الإجابة عليه مطلقا، أقصد الكيفية المتعلقة بتوليد الإحساس واختلاق الشعور والمضي في ديناميكة "رصّ الكلمات"؛ فالتعامل مع "الكتابة" كمهارة أمر لا أفهمه ولا أحاول للدقة.
فى حوار مع "آليس مونرو" -كاتبة القصص الكندية- سألها المحاور: هل تظنين أن الكتابة "موهبة" منحت لك ؟ فأجابته: دائما ما أحاول بمجهود كاف، فحتى وإن كانت موهبة، فإنها لم تكن هبة سهلة أبدا. إجابة مونرو تؤكد على ما نؤمن به من وجوب الاجتهاد، المزيد والمزيد من القراءة، تعويد النفس على تذوق الكلمات وتلمّس الجمال فى الحروف، المكابدة فى صياغة جيدة، مصادقة اللغة ومعرفة أسراراها والغرق في سحرها، كل هذا ضروري وهام، لكن هذا جميعه لن يوقد جذوة الشعور وملكة تسطيره حرفا، لن يكفي المجهود أبدا دون وجود الموهبة، بقول آخر لن تبدع فيما لم يوضع فيك سرّه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.