شعار قسم مدونات

راقصة المراهقة وفتاة الليل النضوج

blogs فتاة ليل

في منتصف ليل اليوم الأخير من نوفمبر الماضي، كانت الشوارع خالية تماما إلا من أصوات صافرات الشرطة وضوضاء بعض الحانات ونباح الكلاب المنتشرة هنا وهناك، مشهد كئيب يبعث على انغلاق النفس وبغض الحياة.. تحذيرات بيت الاستقبال تبدو واضحة جدا حيال تلك الأوقات، لافتة مضيئة تمنع التجوال بعد العاشرة ليلا، وأفراد الشرطة يرتدون كامل عتادهم كأنهم على وشك الدخول في حرب.. لكن لا بأس بجولة المخاطرة وشغف الاكتشاف، فثمة تجارب لا يكتمل حصادها ما لم تُعجن ببعض التهور.

أمام إشارة مرورية مركزية تتألق أضواء حانة ليلية شاسعة الضوء رغم كآبة ما حولها من فتيات مستهلكات النفس والجسد، كراقصات أفراحنا الشعبية اللاتي يتراقصن في غيبوبة مصنوعة بالمخدرات، ويتجاهلن عبارات الشهوة ونصائح الاستهجان من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف انتهت رحلتهن إلى خشبة ذلك المسرح أو جدارية ذلك الملهى. لن يعجب هذا الكلام مثاليي التصورات وأوصياء الأخلاق، لكنني أتذكر مرة في عمر المراهقة، حين وفدت إلى شارعنا راقصة في فرح أحد الجيران، كان جسدها اللافت الأكبر لعيون كل المراهقين أمامها، لا مكان لادعاء المثالية هنا، لكنني حقا كنت أسترق النظر إلى عينيها وفي خاطري فضول، من تلك الفتاة؟ وكيف جاءت إلى هنا؟ يقودها قواد؟ ديون؟ متزوجة؟ لديها أولاد؟ ما الذي يدفعها لتَقبِّل هذا كله؟

كانت تجيب بعينها التي كانت تعبث بكل اتجاهات المسرح إلا زاوية الجالسين، وحركات جسدها التائهة التي تكشف أنها لا تسمع للموسيقى التي خلفها، وإنما ترقص على معزوفة أخرى لا يسمعها غيرها.. وعباءتها السوداء التي التحفت بها فور انتهاء فقرتها، لتختفي عن المشهد كله، تاركة في نفسي أسئلة لم تغب عني وقد جاوزت الثلاثين.

الجسد النحيل المتهالك الذي يتلوى على الأرض، الملابس البالية التي يبدو أنها ملت الترقيع كي تظهر أكثر إغراء، وقبضتها الصغيرة التي تضرب الرصيف بحسرة على ضياع فرصة الخلاص

الحقيقة أنني أحمل تعاطفا كبيرا لتلك العاملات في سوق الدعارة ومشتقاتها، خصوصا هؤلاء اللاتي يتعرضن للحبس والتنكيل، وأنظر لكل واحدة منهن كضحية استثنائية لم تترك لبعضهن الحياة فرصة لخيارات أخرى، نعم نعم، كما يظهرن في أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون، تلك هي الحقيقة، حتى لو كنت تؤمن بأنها مؤامرة لإجبارك على التعاطف مع المجرمات الآثمات.

لماذا بعدنا عن حكايتنا إلى تلك التأملات العجيبة والقصص الجانبية؟ لأن هذا بالفعل ما ثار في داخلي حين رأيت مخلوقات "فتيات الليل" للمرة الأولى تلك الليلة، كل واحدة منهن تبدو قصة لوحدها، وبطلة في مدينة جوثام، بظلامها وجفائها وضحاياها المنسيين.. مرة أخرى تعود أسئلة المراهقة أكثر عنفا وحيرة أمام تلك الفتيات المزروعات كأعمدة الإنارة، وهن يبعن الشيء الوحيد الذي يمتلكنه تقريبا.

فجأة، تقرر واحدة منهن الإلقاء بنفسها أمام سيارة مسرعة على جانب الطريق، كانت ترتدي زيا أسود يغطي كل جسدها، لو سارت في الظلام لاختفت فيه كأنها قطعة منه.. جزء من الثانية تفصلها عن الموت، لكن يبدو أن الفشل قرين حياتها فعلا، فقد اجتذبها ضابط شرطة قبل لحظة من تحقيق حلمها المنشود.

سحبتها الشرطة إلى رصيف الشارع، والتفوا حولها وهي تفترش الأرض وتصرخ فيهم بكلمات لا أفهمها، تحمل التراب وتضعه فوق رأسها، وتحاول يائسة أن تدفع أقدام الضابط عنها كي تختبر حظها العاثر من جديد مع سيارة مسرعة أخرى. كنت أقف على زاوية الطريق، حاولتُ الاقتراب قدر الإمكان، لم أكن أفهم لغتها ولا لغة أحد من المحتشدين، لكنني فهمت كثيرا عن قصتها، تلك الإشارات العبثية التي كانت تلوح بها، الجسد النحيل المتهالك الذي يتلوى على الأرض، الملابس البالية التي يبدو أنها ملت الترقيع كي تظهر أكثر إغراء، وقبضتها الصغيرة التي تضرب الرصيف بحسرة على ضياع فرصة الخلاص.

لا مشاهد أخرى في الحكاية، فقد كان لا بد من حملها بعيدا عن الحانة وأفراحها، تلك البائسة التي تريد أن تضيع على صاحب الماخور أرباح ليلته السعيدة بقصتها التعيسة، إنها فتاة وقحة، السيارات المسرعة في كل مكان، فلم اختارت أن تموت هنا؟ مر على القصة ثلاثة أشهر، ولا يزال المشهد يتكرر أمامي يوما بعد يوم، والأسئلة المحيرة لا تزال تزداد حضورا كلما كبرت بي الأعوام، مازلت لا أعرف من هي راقصة المراهقة ولا فتاة ليل النضوج، مازلت لا أعرف أين اختفت الأولى، وكيف انتهت قصة الثانية.. وإنني يقتلني الفضول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.