شعار قسم مدونات

القس لم يقتل السناجب

blogs القس

في ولاية تكساس الأمريكية، وفي المقبرة التي يُدفن فيها من تنفذ فيهم أحكام الإعدام ولا أهل لهم فتوضع على مقابرهم شواهد بلا اسم، استضاف المخرج الألماني وارنر هيرزوج Werner Herzog القس الموقر ريتشارد لوبيزThe Reverend Richard Lopez الذي يعظ المحكوم عليهم بالإعدام لحظة تنفيذ الحكم، في مقابلة استخدمها في فيلمه الوثائقي نحو الهاوية Into The Abyss. تمت المقابلة قبل ساعة واحدة من استعداد القس لحضور حكم إعدام جديد بالحقنة السامة. سأله هيرزوج: (هل يمكن أن تفكر في الرجل الذي ستواجهه بعد ساعة من الآن؟)، تقبل القس السؤال ببساطة وبإيمان، وأجاب: (أنا ذاهب بدون أية توقعات. أنا فقط ذاهب لأري ماذا قدر الله لي وله).

 

هناك من قدرت لهم الحياة أعمال غاية في الصعوبة، كهذا القس الذي يقتضي عمله أن يعظ المحكوم عليهم بالقتل لحظة موتهم. ونتيجة لما يمكن أن يسببه هذا العمل من أزمات نفسية عميقة فإن القس قد استطاع أن يكون منطقه الخاص الذي يمكنه التصالح مع نفسه. وهذا المنطق هو الإيمان الكامل بعدل الإله، فيقول: (نحن لدينا إله رحيم وعادل ولطيف وغفور. وفي أوقات الرخاء أو الشدة والمحنة، فالإله دائماً موجود من أجلنا. هذا ما أقوله وهذا ما أحاول أن أجعل المحكوم عليهم بالإعدام يشعرون به. وعندما تنتهي كل الإجراءات وتأتي ساعة الموت، أطلب منه الإذن بالوقوف عند قدميه، ودائماً ما أطلب الإذن، ثم أمسك كاحله وأنتظر حتى يأتي الموت).

 

يسأل هيرزوج القس: (لماذا شرع الله عقوبة الإعدام في رأيك؟). فيجيب القس: (لا أعرف الإجابة. أنا أؤمن أن هناك دائماً غاية لأوامر الإله). يفكر القس ثم يقول: (لقد خلق الله العديد من المخلوقات في هذا العالم. أنا مثلاً ألعب الجولف، وأحب كثيراً التواجد في ملعب الجولف، فأضع الهاتف على وضعية الصامت، ثم أتأمل النباتات التي خلقها الله. أستطيع أن أرى السناجب وهي تجري… الغزلان… البقر والأحصنة. في هذه اللحظات التي أتأمل فيها خلق الله أدرك قيمة الحياة. الحياة التي وهبها الله لمخلوقاته).

 

فيلم Into The Abyss ظهر للشاشة عام ٢٠١١ وقد تناول قضية عقوبة الإعدام بشكل مفصل للغاية، فاستطاع تصوير لقاء مع مايكل بيري والمحكوم عليه بالإعدام قبل ثمانية أيام فقط من اليوم المقرر لإعدامه

بعدة عدة سنوات من هذا اللقاء تحدث وارنر هيرزوج عن هذه المقابلة في إحدى دروسه لتعليم فن عمل المقابلات في الأفلام الوثائقية، فقال إن لم يحب أبداً الطريقة التي كانت تجري بها المقابلة، فكل هذا الكلام عن روعة الخلق والمخلوقات والإيمان بالقدر معروف ومفهوم، ولكنه أراد أن يسبر أغوار القس ويُخرج ما بداخله من مشاعر. ولهذا فقد قاطعه أثناء حديثه عن جمال المخلوقات وروعتها وسأل القس سؤالاً غريباً بدا أنه بعيد عن موضوع الفيلم الأساسي. فقد سأله: (صف لي مواجهة تمت بينك وبين السناجب في ملعب الجولف).

 

ضحك القس وأجاب: (ذات مرة كنت أقود السيارة المخصصة للتنقل داخل ملعب الجولف ورأيت سنجابين يطاردان بعضهما البعض ذهاباً وإياباً في الطريق المخصص للسيارة، وبدا أنهم لا يلاحظون قدومي باتجهاهما. ثم عندما اقتربت بشدة ضغطت على الفرامل فتوقفت السيارة أمامها، فتوقفا للحظات ونظرا إليّ، فقلت لنفسي: لو لم أتوقف لكنت قد دهستهما وأنهيت حياتهما). يبدو السؤال عادياً، لكنه جعل القس ينتبه إلى أنه بعد أقل من ساعة من الآن سيقف أمام إنسان ستنتهي حياته أمام عينيه، وسيلمسه، ولن يكون باستطاعته منع هذا الموت، بينما كان باستطاعته منع موت السناجب.

 

هكذا بدأ القس فجأة في البكاء وهو يقول: (تذكرت حينها كل الرجال الذين وقفت أمامهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وبسبب بعض الأخطاء التي ارتكبوها فإن حياتهم تُسلب منهم الآن. الحياة قيمة سواء كانت حياة إنسان أم حياة سنجاب، كان باستطاعتي منع موت السناجب بالضغط على الفرامل أو إصدار بعض الضوضاء، لكني لا استطيع منع موت إنسان صدر ضده حكم بالإعدام، ولكني أتمنى لو كنت أستطيع).

 

فيلم Into The Abyss ظهر للشاشة عام ٢٠١١ وقد تناول قضية عقوبة الإعدام بشكل مفصل للغاية، فاستطاع تصوير لقاء مع مايكل بيري Michael Perry البالغ من العمر ٢٨ عاماً والمحكوم عليه بالإعدام قبل ثمانية أيام فقط من اليوم المقرر لإعدامه. مايكل بيري ارتكب جريمة قتل لثلاثة أشخاص عام ٢٠٠٠ بمساعدة أحد أصدقائه جيسون بوركست Jason Burkett، أي إنه ارتكبها عندما كان في الثامنة عشرة من عمره فقط. حُكم على بيري بالإعدام وعلى صديقه بالسجن مدى الحياة.

 

حتى لحظة إعدامه بالحقنة السامة في الأول من يوليو عام ٢٠١٠ ظل بيري ينفي أي علاقة له بالجريمة، وبينما أعلن مخرج الفيلم هيرزوج أنه ضد عقوبة الإعدام، إلا أن السيدة ليزا ستوتلر Lisa Stotler التي فقدت أمها وأخاها في هذه الجريمة قالت إنها أصرت على حضور لحظة الإعدام بنفسها. تقول ليزا: (لا أريد أن أبدو كشخص شرير، ولكني شعرت بالسعادة لأني شاهدت لحظة الإعدام بنفسي. لا أعرف ماذا حدث لي تحديداً ولكني شعرت أن هناك عبء ثقيل أٌزيح عن كاهلي واستطعت أخيراً أن آخذ نفساً عميقاً).

 

أما والد جيسون بوركيت صديق بيري الذي ساعده في ارتكاب الجريمة فيقول: (أنا أعرف مايكل جيداً، هو الصديق المقرب لابني، وقد كان طفلاً عندما ارتكب هذه الجريمة. والآن ماذا بعد إعدامه؟ هل عاد أحد ممن قُتلوا للحياة؟ هل ارتدع الناس وتوقفوا عن القتل؟ الإعدام لا يعيد أحداً للحياة ولا يردع الناس عن القتل).

 

استضاف الفيلم فريد ألين Fred Allen أحد المسئولين السابقين عن غرفة الإعدام Death House والذي شارك في ما يزيد عن ١٢٠ عملية إعدام. يقول فريد: (كنت أؤدي عملي دون أن أبالي. يأتي المحكوم عليه بالإعدام فنأخذ بصماته ثم ندعه يأخذ حماماً ويرتدي ملابس نظيفة. بعدها أياً ما سيطلبه لوجبته الأخيرة فسنحضره له. كما يمكنه أن يطلب أي شيء آخر يريده، كعصير أو غيره. أحياناً كنا نتلقى طلبات غريبة لا نستطيع تلبيتها، مثلما طلب أحدهم ذات مرة أن يدخن الماريوانا).

 

يتابع فريد: (نقوده بعدها لغرفة الإعدام، حيث يرقد على المحفة ونبدأ ربطه بالأحزمة. أتولى أنا أمر الساق اليسري، ويتولي أخر أمر الساق اليمنى، واثنان آخران ليديه، ويبقى واحد ليكون مسئولاً عن إبقائه على المحفة بالضغط على كتفيه في حال قام استجابة مفاجئة وأراد أن ينهض من عليها. عندما ترقد على المحفة فلن تنهض مجدداً. ثم يُحقن السائل المميت وأراه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وينصرف الجميع يكون علي العودة للغرفة وحدي وفك الأحزمة من جديد).

 

يلتقط فريد نفساً عميقاً ويتابع: (لم أكن أحاول أن أتأثر عاطفياً بكل هذا. كنت أحاول أن أؤديه بشكل روتيني وأعود إلى منزلي ولا أفكر في شيء مما حدث. حتى وصلت إلينا ذات يوم سيدة محكوم عليها بالإعدام، كانت كارلا فاي Karla Faye وكانت هذه أول مرة أشرف فيها على إعدام سيدة). أُعدمت كارلا فاي في فبراير ١٩٩٨، وهي أول سيدة يتم إعدامها في ولاية تكساس منذ العام ١٨٦٣ عندما تم إعدام شيبيتا رودريجز Chipita Rodriguez. وقد تم إنتاج فيلم عام ٢٠٠٤ يوثق قصة إعدامها بعنوان Karla Faye Tucker Forevermore.

 

يتابع فريد: (قبل ساعة من الإعدام نظرت كارلا إليّ وقالت: شكراِ لك يا كابتن على كل ما فعلت. لم أدر بماذا أجيب فقلت: على الرحب والسعة. ما الذي كان يمكن أن أقوله غير هذا؟ هل أقول لها مثلاً: أنا سأثبتك بالأحزمة على المحفة بعد ساعة من الآن؟! مر كل شيء بعدها بالروتين الاعتيادي، وانتهيت من عملية الإعدام، وذهبت بعدها إلى مقهى صغير وجلست ثم بدأت أنباء الإعدام تأتي عبر الراديو، ولسبب لا أعرفه بدأت ارتجف… بدأ جسمي كله يرتجف بشدة. لقد ساهمت في قتل امرأة! وبدأت عندها أتذكر وجوه كل من شاركت في قتلهم. كدت أجن، وذهبت إلى القس وقلت له: لا أعرف ماذا حدث لكني لم أعد أستطيع الاستمرار. لن أتمكن من العودة إلى هذا العمل بعد الآن).

 

استقال فريد بالفعل وخسر راتب تقاعده بسبب هذه الاستقالة. وبعد أن كان من مؤيدي عقوبة الإعدام أصبح ضدها، ويقول: (ليس من حق أحد أن يسلب حياة أي إنسان… لا يهمني إن كان هذا هو القانون… من السهل تغيير القوانين). أصر مايكل بيري حتى آخر لحظة في حياته على براءته، وكان أخر ما قاله قبل اعدامه: (أريد أن يعلم الجميع ممن شاركوا في هذا الفعل الفظيع ضدي وقاموا بقتلي أني سامحتهم جميعاً). قال هيرزوج مخرح الفيلم لليزا ستوتلر التي فقدت أمها وأخيها في هذه الجريمة: (ربما لو كان المسيح بيننا الآن فإنه لن يكون من أنصار تطبيق عقوبة الإعدام). فأجابته ليزا: (ربما، ولكن هناك بعض الأشخاص لا يستحقون الحياة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.